الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) يحتمل أن يكون المراد كونه أولا في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولا في كونه مباركا وهدى فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان . الأول : أنه أول في البناء والوضع ، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال . أحدها : ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في " البسيط " بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين ، وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى ، وروي أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى بعث ملائكته فقال : ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور ، وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، وهذا كان قبل خلق آدم " .

                                                                                                                                                                                                                                            وأيضا ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ، ومجاهد والسدي : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته ، قال القفال في " تفسيره " : روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال : وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام " أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر ، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين ، وحققتها بسبعة أملاك حنفاء " . وثانيها : أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة ، فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها ، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام ، فلما أرسل الله [ ص: 126 ] تعالى الطوفان ، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة ، يتعبد عنده الملائكة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة ، وبقي مختفيا إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت ، وأمره بعمارته ، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام ، وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه . الأول : أن تكليف الصلاة كان لازما في دين جميع الأنبياء عليهم السلام ، بدليل قوله تعالى في سورة مريم : ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) [ مريم : 58 ] فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله ، والسجدة لا بد لها من قبلة ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعا آخر سوى القبلة لبطل قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) فوجب أن يقال : إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة ، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدا مشرفة مكرمة . الثاني : أن الله تعالى سمى مكة أم القرى ، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة . الثالث : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : " ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر " وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة . الرابع : أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت موجودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه . الأول : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ، ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يقال البيت كان موجودا قبل إبراهيم وما كان محرما ثم حرمه إبراهيم عليه السلام . الثاني : تمسكوا بقوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) [ البقرة : 127 ] ، ولقائل أن يقول : لعل البيت كان موجودا قبل ذلك ثم انهدم ، ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار . الثالث : قال القاضي : إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد ، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة ، ويكون شرف تلك الجهة باقيا بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها ، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول : لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء ، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة ، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها ، فهذا جملة ما في هذا القول :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولا في كونه مباركا وهدى للخلق . روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس ، فقال عليه الصلاة والسلام : " المسجد الحرام ثم بيت المقدس " فقيل : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " وعن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له : أهو أول بيت ؟ قال : لا ، قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة ، أول من بناه إبراهيم ، [ ص: 127 ] ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبناه العمالقة ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه ، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة ، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود ، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء ، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية