الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 422 ] 17 - باب

                                إذا اشتد الحر يوم الجمعة

                                864 906 - حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ثنا حرمي بن عمارة، ثنا أبو خلدة - هو: خالد بن دينار - قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة - يعني: الجمعة.

                                وقال يونس بن بكير: أنا أبو خلدة، وقال: " بالصلاة "، ولم يذكر: " الجمعة ".

                                وقال بشر بن ثابت: ثنا أبو خلدة: صلى بنا أمير المؤمنين الجمعة، ثم قال لأنس: كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الظهر؟

                                التالي السابق


                                خرج الإسماعيلي في " صحيحه " - وهو " المستخرج على صحيح البخاري " - من طريق هارون بن عبد الله ، عن حرمي بن عمارة ، حدثني أبو خلدة ، قال: سمعت أنس بن مالك - وناداه يزيد الضبي : يا أبا حمزة ، قد شهدت الصلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهدت الصلاة معنا، فكيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الجمعة؟ - فقال: كان إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة.

                                وخرجه - أيضا - من رواية محمد بن المثنى ، عن حرمي ، ولم يذكر في حديثه: " الجمعة ".

                                وخرج - أيضا - رواية يونس بن بكير التي علقها البخاري ، ولفظ حديثه: [ ص: 423 ] كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بها - يعني: الظهر.

                                وخرج - أيضا - حديث بشر بن ثابت الذي علقه البخاري - أيضا - ولفظ حديثه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان الشتاء يبكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها، ولكن يصلي العصر والشمس بيضاء.

                                وخرجه البيهقي من رواية بشر بن ثابت - بهذا المعنى.

                                وخرج - أيضا - رواية يونس بن بكير : ثنا أبو خلدة : سمعت أنس بن مالك - وهو جالس مع الحكم أمير البصرة على السرير - يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة.

                                وروى هذا الحديث - أيضا - خالد بن الحارث : ثنا أبو خلدة ، أن الحكم بن أيوب أخر الجمعة يوما، فتكلم يزيد الضبي . وقال: دخلنا الدار وأنس معه على السرير، فقال له يزيد : يا أبا حمزة ، قد صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وحضرت صلاتنا، فأين صلاتنا من صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: إذا كان الحر برد بالصلاة، وإذا كان البرد يبكر بالصلاة، ولم يسمعه، ولكنه قد شهد الأمر.

                                خرجه النسائي في " كتاب الجمعة ".

                                وهذه الرواية تخالف رواية البخاري التي فيها التصريح بالسماع.

                                وقد رواه سهل بن حماد ، عن أبي خلدة ، قال: بينا الحكم بن أيوب يخطب في البصرة إذ قام يزيد الضبي ، فناداه، فقال: أيها الأمير: إنك لا تملك الشمس، فقال: خذاه، فأخذ، فلما قضى الصلاة أدخل عليه، ودخل الناس، وثم أنس بن مالك ، فأقبل على أنس ، فقال: كيف كنتم تصلون مع [ ص: 424 ] رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبرد بالصلاة في الحر، ويبكر بها في الشتاء.

                                خرجه المروزي في " كتاب الجمعة ".

                                فقد تبين بهذه الروايات أن سبب سؤال أنس إنما كان تأخير الحكم بن أيوب .

                                وقضية يزيد الضبي مع الحكم بن أيوب في إنكاره عليه تأخير الجمعة وهو يخطب معروفة، وكان أنس بن مالك حاضرا.

                                وقد خرجها بتمامها ابن أبي الدنيا في " كتاب الأمر بالمعروف " من رواية جعفر بن سليمان ، حدثني المعلى بن زياد ، قال: حدثني يزيد الضبي ، قال: أتيت الحسن ثلاث مرات، فقلت: يا أبا سعيد ، غلبنا على كل شيء، وعلى صلاتنا نغلب؟! فقال الحسن : إنك لن تصنع شيئا، إنما تعرض نفسك لهم. قال: فقمت والحكم بن أيوب ابن عم الحجاج يخطب، فقلت: الصلاة يرحمك الله، قال: فجاءتني الزبانية، فسعوا إلي من كل جانب، فأخذوا بلبتي، وأخذوا بلحيتي ويدي وكل شيء، وجعلوا يضربوني بنعالهم وسيوفهم، قال: وسكت الحكم بن أيوب ، وكدت أن أقتل دونه، ففتح باب المقصورة، فأدخلت عليه، فقال: أمجنون أنت؟ قلت: ما بي من جنون، قال: أوما كنا في صلاة؟ قلت: أصلحك الله، هل من كلام أفضل من كتاب الله؟ قال: لا، قلت: لو أن رجلا نشر مصحفه فقرأه غدوة حتى يمسي، ولا يصلي فيما بين ذلك، كان ذلك قاضيا عنه صلاته؟ قال الحكم : إني لأحسبك مجنونا: قال: وأنس بن مالك جالس قريبا من المنبر، على وجهه خرقة خضراء، فقلت: يا أبا حمزة ، أذكرك الله، فإنك صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخدمته، أحق أقول أم باطل؟ قال: فوالله ما أجابني بكلمة. فقال له الحكم : يا أنس ، قال: لبيك، أصلحك الله - قال: وقد كان فات ميقات الصلاة - قال: يقول له [ ص: 425 ] أنس : قد كان بقي من الشمس بقية؟ فقال: احبساه. قال: فحبست، فشهدوا أني مجنون.

                                قال جعفر : فإنما نجا من القتل بذلك - وذكر بقية القصة.

                                فقد تبين بهذا السياق أن الصحابة والتابعين كانوا كلهم خائفين من ولاة السوء الظالمين، وإنهم غير قادرين على الإنكار عليهم، وأنه غير نافع بالكلية؛ فإنهم يقتلون من أنكر، ولا يرجعون عن تأخير الصلاة على عوائدهم الفاسدة.

                                وقد تكلم بعض علماء أهل الشام في زمن الوليد بن عبد الملك في ذلك، وقال: أبعث نبي بعد محمد يعلمكم هذا - أو نحو ذلك؟ فأخذ فأدخل الخضراء، فكان آخر العهد به.

                                ولهذا لم يستطع أنس أن يجيب يزيد الضبي بشيء حين تكلم يزيد ، وإنما قال للحكم لما سأله: قد بقي من الشمس بقية - يريد: قد بقي من ميقات العصر بقية - وهو كما قال، لكن وقت الجمعة كان قد فات، ولم يستطع أن يتكلم بذلك، فلما دخل الحكم داره، وأدخل معه أنسا ويزيد الضبي ، فسئل أنس في ذلك الوقت عن وقت صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبر أنه كان يعجل في البرد، ويبرد في الحر، ومراده -والله أعلم-: صلاة الظهر، وهذا هو الذي أمكن أنسا أن يقوله في ذلك الوقت، ولم يمكنه الزيادة على ذلك.

                                وأكثر العلماء على أن الجمعة لا يبرد بها بعد الزوال، بل تعجل في أول الوقت، وللشافعية في ذلك وجهان.

                                وقد كان الصحابة والتابعون مع أولئك الظلمة في جهد جهيد، لا سيما في تأخير الصلاة عن ميقاتها ، وكانوا يصلون الجمعة في آخر وقت العصر، فكان أكثر من يجيء إلى الجمعة يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يجيء إلى المسجد تقية لهم، ومنهم من كان إذا ضاق وقت الصلاة وهو في المسجد أومأ بالصلاة خشية القتل.

                                [ ص: 426 ] وكانوا يحلفون من دخل المسجد أنه ما صلى في بيته قبل أن يجيء.

                                قال إبراهيم بن مهاجر : كنت أنا وسعيد بن جبير وإبراهيم نصلي الظهر، ثم نجلس فنتحدث والحجاج يخطب يوم الجمعة.

                                خرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في " كتاب الصلاة ".

                                وخرج - أيضا - بإسناده، عن أبي بكر بن عتبة ، قال صليت إلى جنب أبي جحيفة ، فتمسى الحجاج بالصلاة، فقام يصلي الجمعة، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: يا أبا بكر ، أشهدك أنها الجمعة .

                                وهذا غريب، يدل على أنه يصح أن يصلي الرجل الجمعة وحده.

                                وبإسناده: عن الأعمش ، عن إبراهيم وخيثمة ، أنهما كانا يصليان الظهر والعصر، ثم يأتيان الحجاج يوم الجمعة، فيصليان معه.

                                وعن أبي وائل ، أنه كان يأمرهم أن يصلوا في بيوتهم، ثم يأتوا الحجاج فيصلون معه الجمعة.

                                وعن محمد بن أبي إسماعيل ، قال: كنت في مسجد منى ، وصحف تقرأ للوليد ، فأخروا الصلاة: قال: فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان، وهما قاعدان.

                                وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري في " كتاب أدب السلطان " بابا في تأخير الأمراء الصلاة ، خرج فيه الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة في ذلك، وقد سبق ذكر بعضها في " أبواب: المواقيت ".

                                وروى فيه بإسناده: أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود كان يروح إلى المسجد وقد صلى الظهر والعصر، فيجلس فينتظر، فيقول: ما له قاتله الله؟ يصيح على منبره صياحا، وقد فاتته العصر، ولم يصل الظهر بعد.

                                [ ص: 427 ] وبإسناده: عن عمرو بن هرم ، قال: كان أنس بن مالك يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يأتي الحجاج فيصلي معه الجمعة.

                                وبإسناده: عن عبد الله بن أبي زكريا ، أنه كان يجمع مع الوليد بن عبد الملك ما صلى الوليد في وقت الظهر الجمعة، ويعتد بها جمعة، فإن أخرها عن وقت الظهر صلى الظهر في آخر وقت الظهر أربعا إيماء، ثم صلى الجمعة معه، وجعلها تطوعا، فإن أخر العصر حتى يخرج وقتها صلاها في آخر وقتها إيماء.

                                وبإسناده: عن حصين ، قال: كان أبو وائل إذا أخر الحجاج الجمعة استقبل القبلة، يومئ إيماء: يتناعس.

                                وبإسناده: عن جرير ، قال: شهدت الجمعة مع ابن هبيرة ، فأخر الصلاة إلى قريب من العصر، فرأيت الناس يخرجون، فرأيت أبا حنيفة خرج، فكان شيخ يصيح في المسجد: لو كان الحجاج ما خرجوا، وجعل فضيل بن غزوان ويقول: إنهم، إنهم.

                                وبإسناده: عن ابن سيرين ، أنه حضر الجمعة، فأخر الأمير الصلاة، فأدمى ظفره، ثم قام فخرج، وأخذته السياط حتى خرج من المسجد.

                                وعن عطاء بن السائب : قال: رأيت سعيد بن جبير وأبا البختري وأصحابه يومئون يوم الجمعة، والحجاج يخطب، وهم جلوس.

                                وعن محمد بن إسماعيل ، قال: رأيت سعيد بن جبير وعطاء ، وأخر الوليد الجمعة والعصر، فصلاهما جميعا، قال: فأومآ إيماء، ثم صليا معه بمنى .

                                وبإسناده: عن حميد ، أن الوليد بن عبد الملك خرج بمنى بعد العصر، فخطب حتى صارت الشمس على رءوس الجبال، فنزل فصلى الظهر، ثم صلى [ ص: 428 ] العصر، ثم صلى المغرب.

                                وروى بإسناد له: عن سالم ، أنه ذكر أن الوليد قدم عليهم المدينة ، فما زال يخطب ويقرأ الليث حتى مضى وقت الجمعة، ثم مضى وقت العصر، فقال القاسم بن محمد لسالم : أما قمت فصليت؟ قال: لا. قال: أفما أومأت؟ قال: لا. وقال: خشيت أن يقال: رجل من آل عمر .

                                وروى بإسناده: عن عمارة بن زاذان ، حدثني مكحول ، قال: خطب الحجاج بمكة ، وأنا إلى جنب ابن عمر ، يحبس الناس بالصلاة، فرفع ابن عمر رأسه، ونهض، وقال: يا معشر المسلمين، انهضوا إلى صلاتكم، ونهض الناس، ونزل الحجاج ، فلما صلى قال: ويحكم، من هذا؟ قالوا: ابن عمر . قال: أما والله لولا أن به لمما لعاقبته.

                                وروى أبو نعيم في " كتاب الصلاة ": ثنا زهير ، عن جابر - وهو: الجعفي - عن نافع ، قال: كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج ، فلما أخرها ترك الصلاة معه.

                                وكان الحسن يأمر بالكف عن الإنكار عليهم، ثم غلبه الأمر فأنكر على الحجاج ، وكان سبب اختفائه منه حتى مات الحجاج ، والحسن متوار عنه بالبصرة .

                                وقد روى أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب " مناقب الحسن " بإسناد له، أن الحسن شهد الجمعة مع الحجاج ، فرقى الحجاج المنبر، فأطال الخطبة حتى دخل في وقت العصر، فقال الحسن : أما من رجل يقول: الصلاة جامعة؟ فقال رجل: يا أبا سعيد ، تأمرنا أن نتكلم والإمام يخطب؟ فقال: إنما أمرنا أن ننصت لهم فيما أخذوا من أمر ديننا، فإذا أخذوا في أمر دنياهم أخذنا في أمر [ ص: 429 ] ديننا، قوموا، فقام الحسن وقام الناس لقيام الحسن، فقطع الحجاج خطبته، ونزل فصلى بهم، فطلب الحجاج الحسن فلم يقدر عليه.

                                وهذا كله مما يدل على اجتماع السلف الصالح على أن تأخير الجمعة إلى دخول وقت العصر حرام لا مساغ له في الإسلام.

                                ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة صلى الجمعة في أول وقتها على ما كانت عليه السنة.

                                فروى إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن مهاجر ، أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي الجمعة في أول وقتها حين يفيء الفيء ذراعا ونحوه، وذلك في الساعة السابعة.

                                وقال ابن عون : كانوا يصلون الجمعة في خلافة عمر بن عبد العزيز والظل هنية.



                                الخدمات العلمية