الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 583 ] قوله عز وجل:

كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون

قال ابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم: "المهل" : دردي الزيت وعكره، وقال ابن مسعود ، وابن عباس أيضا رضي الله عنهم: "المهل": ما ذاب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص ونحوه، قال الحسن: كان ابن مسعود على بيت المال لعمر رضي الله عنه بالكوفة، فأذاب يوما فضة مكسرة، فلما انماعت، قال: يدخل من بالباب، فدخلوا، فقال لهم: هذا أشبه ما رأينا في الدنيا بالمهل.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والمعنى: أن هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنم صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل السخن من الإحراق والإفساد، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر : "تغلي" بالتاء، أي: الشجرة، وهي قراءة عمرو بن ميمون ، وأبي رزين، والحسن ، والأعرج ، وأبي جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن، وطلحة . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص : "يغلي" بالياء على معنى الطعام، وهي قراءة مجاهد ، والحسن -بخلاف عنه- و "الحميم": الماء السخن الذي يتطاير من غليانه.

وقوله تعالى: خذوه فاعتلوه الآية، معناه: يقال يومئذ للملائكة عن هذا الأثيم: خذوه فاعتلوه، و"العتل": السوق بعنف وإهانة ودفع قوي متصل، كما يساق أبدا مرتكب الجرائم، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : "فاعتلوه" بضم التاء، والباقون بكسرها، وقد روي الضم عن أبي عمرو ، وكذلك روي الوجهان عن الحسن، وقتادة ، والأعرج ، و"السواء": الوسط، وقيل: المعظم، وذلك متلازم، المعظم أبدا من مثل [ ص: 584 ] هذا إنما هو في الوسط، وفي الآية ما يقتضي أن الكافر يصب على رأسه من حميم جهنم، وهو ما يغلي فيها من ذوب، وهذا كما في قوله تعالى: يصب من فوق رءوسهم الحميم ، وإلى هذا نظر بعض ولاة المدينة، فإنه كان يصب الخمر على رأس الذي شربها أو توجد عنده عقوبة له وأدبا، ذكر ذلك ابن حبيب في الواضحة.

وقوله تعالى: ذق، إنك أنت العزيز الكريم مخاطبة على معنى هذا التقريع، ويروى عن قتادة أن أبا جهل لما قال نزلت: إن شجرت الزقوم طعام الأثيم : أيتهددني محمد -عليه الصلاة والسلام- وأنا ما بين جبليها أعز مني وأكرم؟ فنزلت هذه الآيات، وفي آخرها: ذق إنك أنت العزيز الكريم أي: على قولك، وهذا كما قال جرير :

ألم يكن -في وسوم قد وسمت بها ... من حان- موعظة يا زهرة اليمن؟

يقولها للشاعر الذي سمى نفسه به، وذلك في قوله:

أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأعز وأني زهرة اليمن

فجاء بيت جرير على هذا الهزء، وقرأ الجمهور: "إنك" بكسر الألف، وقرأ الكسائي وحده: "أنك" بفتح الألف، والمعنى واحد في المقصد وإن اختلف المأخذ إليه، وبفتح الألف قرأها على المنبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أسندها إليه الكسائي وأتبعه فيها.

[ ص: 585 ] وقوله تعالى: إن هذا ما كنتم به تمترون عبارة عن قول يقال للكفرة عند عذابهم، أي: هذه الآخرة وجهنم التي كنتم تشكون فيها.

ثم ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة الكافر ليبين الفرق، وقرأ نافع ، وابن عامر : "في مقام أمين" بضم الميم، وهي قراءة أبي جعفر ، وشيبة ، وقتادة ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، والحسن ، والأعرج ، وقرأ الباقون: "في مقام أمين" بفتح الميم، وهي قراءة أبي رجاء ، وعيسى ، ويحيى ، والأعمش ، و "أمين": معناه: تؤمن فيه الغير، فكأنه فعيل بمعنى مفعول، أي: مأمون فيه. وكسر عاصم العين من "عيون"، قال أبو حاتم : وذلك مردود عند العلماء، ومثله شيوخ وبيوت، بكسر الشين والباء، والسندس: رقيق الحرير، و"الإستبرق": خشنه، وقرأ ابن محيصن: "وإستبرق" بالوصل وفتح القاف، وقوله: "متقابلين" وصف لمجالس أهل الجنة، لأن بعضهم لا يستدبر بعضا في المجالس.

وقوله تعالى: كذلك وزوجناهم تقديره: والأمر كذلك، وقرأ الجمهور: "عين" وهو جمع عيناء، وقرأ ابن مسعود : "بعيس عين" ، وهو جمع عيساء، أي: البيضاء، وكذلك هي من النوق، وقرأ عكرمة : "بحور عين" بغير تنوين في "حور"، وأضافها إلى "عين"، قال أبو الفتح: الإضافة هنا تفيد ما تفيد الصفة، وروى أبو قرصافة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إخراج القمامة من المسجد من مهور الحور العين".

وقوله تعالى: يدعون فيها معناه: يدعون الخدمة والمتصرفين.

وقوله تعالى: إلا الموتة الأولى قدر قوم "إلا" بـ"سوى"، وضعف ذلك الطبري ، وقدرها بـ"بعد"، وليس تضعيفه بصحيح، بل يصح المعنى بسوى ويتسق، [ ص: 586 ] وأما معنى الآية: فبين أنه تعالى نفى عنهم ذوق الموت، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا.

والضمير في قوله تعالى: "يسرناه" عائد على القرآن. وقوله: "بلسانك" معناه: بلغة العرب، ولم يرد الجارحة، وقوله تعالى: فارتقب إنهم مرتقبون معناه: فارتقب نصرنا لك، إنهم مرتقبون -فيما يظنون- الدوائر عليك، وفي هذه الآية وعد له صلى الله عليه وسلم ، ووعيد لهم، وفيها متاركة، وهذا وما جرى منسوخ بآية السيف.

كمل تفسير سورة الدخان والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية