الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وعلى المحصر بالحج إن تحلل حجة وعمرة ، وعلى المعتمر عمرة ، وعلى القارن حجة ، وعمرتان ) بيان لحكم المحصر المآلي فإن له حكمين حاليا ، ومآليا فما تقدم من بعث الشاة حكم الحالي والقضاء إذا تحلل وزال الإحصار حكمه المآلي فإن كان مفردا بالحج فإن حج من سنته فإنه لا يلزمه شيء ، وإلا لزمه قضاؤها ، وعمرة أخرى ; لأنه فائت الحج أطلقه فشمل ما إذا كان الحج فرضا أو نفلا شرع فيه وشمل ما إذا قرن في القضاء أو أفردهما فإنه مخير ; لأنه التزم الأصل لا الوصف ، وأما نية القضاء فإن كان بحج نفل ، وتحولت السنة فهي شرط ، وإن كان بحجة الإسلام فلا ينوي القضاء بل حجة الإسلام ، وإنما لزم القارن عمرة ثانية ; لأنه فائت الحج فلذا لو حج من سنته ، وأتى بهما فإنه لا يلزمه عمرة أخرى ، وأطلقه أيضا فأفاد أن له في القضاء القران ، وإفراد كل واحد من الثلاثة لما قدمناه هكذا صرحوا به هنا ، وممن صرح به صاحب المبسوط والمحيط والولوالجي والمحقق ابن الهمام ويرد عليه ما قالوه في هذا الباب : من أنه إذا زال الإحصار إنما لم يجب عليه أن يأتي بالعمرة التي وجبت عليه بالشروع في القران ; لأنه غير قادر على أدائها على الوجه الذي التزمه ، وهو أن تكون أفعال الحج مرتبة عليها وبفوات الحج يفوت ذلك فإن هذا يقتضي أن ليس له الإفراد ، وأن القران واجب في القضاء ويناقضه ما قالوه في باب الفوات من أن القارن إذا فاته الحج أدى عمرته من سنته ، وأدى الحج من سنة أخرى ; لأنها لا تفوت ، ولا شك أن المحصر فائت للحج إذا لم يدركه في سنته والحق هو الأول ; لأن بالشروع التزم أصل القربة لا صفتها ، وهو القران كما لو شرع في التطوع قائما لا يلزمه القيام عند [ ص: 60 ] أبي حنيفة رحمه الله تعالى .

                                                                                        ( قوله : فإن بعث ثم زال الإحصار ، وقدر على الهدي والحج توجه ، وإلا لا ) أي إن لم يقدر عليهما لا يلزمه التوجه ، وهي رباعية فإن قدر عليهما لزمه التوجه إلى الحج ، وليس له التحلل بالهدي ; لأنه بدل عن إدراك الحج ، وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود من البدل ، وإن لم يقدر عليهما لا يلزمه التوجه ، وهو ظاهر ، وإن توجه ليتحلل بأفعال العمرة جاز ; لأنه هو الأصل في التحلل ، وفيه فائدة ، وهو سقوط العمرة في القضاء ، وإن كان قارنا فله أن يأتي بالعمرة لما قدمناه من أنه مخير بين القران والإفراد في القضاء والثالث أن يدرك الهدي دون الحج فيتحلل والرابع عكسه فيتحلل أيضا صيانة لماله عن الضياع والأفضل التوجه ، وذكر في الهداية أن هذا التقسيم لا يستقيم على قولهما في المحصر بالحج ; لأن دم الإحصار عندهما يتوقف بيوم النحر فمن يدرك الحج يدرك الهدي .

                                                                                        وإنما يستقيم على قول أبي حنيفة ، وفي المحصر بالعمرة يستقيم بالاتفاق لعدم توقت الدم بيوم النحر وذكر في الجوهرة أنه يستقيم على الإجماع كما إذا أحصر بعرفة ، وأمرهم بالذبح قبل طلوع الفجر يوم النحر فزال الإحصار قبل الفجر بحيث يدرك الحج دون الهدي ; لأن الذبح بمنى . ا هـ .

                                                                                        وجوابه أن الإحصار بعرفة ليس بإحصار لما سيأتي فلو أحصر بمكان قريب من عرفة لاستقام ، وفي المحيط لو بعث المحصر هديا ثم زال الإحصار وحدث آخر ونوى أن يكون عن الثاني جاز وحل به ، وإن لم ينو حتى نحر لم يجز كمن وكل في كفارة يمين فكفر الموكل ثم حنث في يمين آخر فنوى أن يكون ما في يد الوكيل كفارة الثانية فإنه يجوز ، وإن لم ينو حتى تصدق المأمور لا ، وكذا لو بعث هديا جزاء صيد ثم أحصر فنوى أن يكون للإحصار ، ولو قلد بدنة ، وأوجبها تطوعا ثم أحصر فنوى أن يكون لإحصاره جاز ، وعليه بدنة مكان ما أوجب .

                                                                                        وقال : أبو يوسف لا يجزئه إلا عن التطوع ; لأنها صارت كالوقف وخرجت عن ملكه عنده فلا يملك صرفها إلى غير تلك الجهة . ا هـ . ( قوله : ولا إحصار بعدما وقف بعرفة ) ; لأنه لا يتصور الفوات بعده فأمن منه ، وإنما تحقق الإحصار في العمرة ، وإن كانت لا تفوت للزوم الضرر بامتداد الإحرام فوق ما التزمه ، وأما المحصر في الحج بعد الوقوف فيمكنه التحلل بالحلق يوم النحر في غير النساء فلا ضرورة إلى التحلل بالدم ثم إن دام الإحصار حتى مضت أيام التشريق فعليه لترك الوقوف بالمزدلفة دم ولترك الجمار دم ولتأخير الحلق دم ولتأخير الطواف دم في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد ليس عليه لتأخير الحلق والطواف شيء كذا في الكافي للحاكم الشهيد ، وقد قدمنا عن البدائع وغيره أن واجب الحج إذا تركه بعذر لا شيء عليه حتى لو ترك الوقوف بالمزدلفة خوف الزحام لا شيء عليه كما لا شيء على الحائض بترك طواف الصدر فلا شك أن الإحصار عذر فلا شيء عليه بترك الواجبات للعذر مع أنه منقول في الحاكم كما رأيت ، وهو جمع كلام محمد في كتبه الستة التي هي ظاهر الرواية ، وقد ظهر لي أن كلامهم هنا محمول على الإحصار بسبب العدو لا مطلقا فإنه إذا كان بالمرض فهو سماوي يكون عذرا في ترك الواجبات ، وإن كان من قبل العباد فإنه لا يكون عذرا في إسقاط حق الله تعالى كما قالوه في باب التيمم أن العدو إذا أسروه حتى صلى بالتيمم فإنه يعيدها بالوضوء [ ص: 61 ] إذا أطلق ; لأنه من قبل العباد ثم اختلفوا في تحلل المحصر بعد الوقوف ( بعرفة ) قيل لا يتحلل في مكانه ويدل عليه عبارة الأصل حيث قال : وهو حرام كما هو حتى يطوف طواف الزيارة ، وهو يدل على تأخير الحلق على أن يفعله في الحرم ، وقيل يتحلل في مكانه ويدل عليه عبارة الجامع الصغير حيث قال : وهو محرم على النساء حتى يطوف طواف الزيارة قال العتابي : وهو الأظهر كذا في غاية البيان .

                                                                                        ( قوله : ومن منع بمكة عن الركنين فهو محصر ، وإلا لا ) أي ، وإن قدر على أحدهما فليس بمحصر ; لأنه إذا منع عنهما في الحرم فقد تعذر عليه الإتمام فصار كما إذا أحصر في الحل ، وإذا قدر على الطواف فلأن فائت الحج يتحلل به والدم بدل عنه في التحلل ، وأما إن قدر على الوقوف فلما بينا ، وقد قيل في المسألة خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف والصحيح ما تقدم من التفصيل كذا في النهاية ، وهو إشارة إلى رد ما في المحيط حيث جعل ما في المختصر من التفصيل رواية النوادر ، وأن ظاهر الرواية أن الإحصار بمكة عنهما ليس بإحصار ; لأنه نادر ، ولا عبرة به .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : ويناقضه ما قالوه إلخ ) أي يناقض ما قالوه في هذا الباب مما حاصله وجوب القران في القضاء ما قالوه في باب الفوات مما حاصله عدم الوجوب ، وقوله ولا شك أن المحصر إلخ بيان وجه المناقضة أي إن المحصر الذي لم يدرك الحج فائت الحج فقد دخل تحت قولهم إن القارن إذا فاته الحج أدى عمرته إلخ فحصلت المناقضة ، وقوله والحق هو الأول أي ما أفاده إطلاق المصنف وصرح به في المبسوط وغيره من أنه مخير [ ص: 60 ] ( قوله : وجوابه أن الإحصار بعرفة ليس بإحصار إلخ ) دفعه في النهر بأن منشأ اعتراضه التحريف ; لأن النسخة لو أحصر بعرفة بالنون ، وإلا فكيف يصح أن يكون بحيث يدرك الحج ( قوله : فكفر الموكل ) ظاهره أنه قيد لصحة كون ما في يد الوكيل كفارة لليمين الثانية بسبب عدم الوجوب للأولى ، ومقتضى قوله ، وكذا لو بعث هديا عدم التقييد تأمل .

                                                                                        ( قول المصنف ، ولا إحصار بعدما وقف بعرفة ) اعترضه بعضهم بأنه تكرار محض مع ما يأتي من قوله ، ومن منع بمكة إلخ ( قوله : وقد ظهر لي إلخ ) نقله عنه في النهر ، وأقره عليه ، وكأن الشرنبلالي لم يقف على ما هنا فاستشكل المسألة أيضا ، وفي الرمز للمقدسي ، ومر أن ترك واجب الحج لعذر لا شيء فيه ، وهو محمول على ما يكون بعدو ، وأما المرض فسماوي يعذر به . ا هـ .

                                                                                        وقدمنا مثله عن شرح اللباب عند قول المصنف في الجنايات أو ترك السعي ( قوله : وإن كان من قبل العباد فإنه لا يكون عذرا إلخ ) إن قلت : ينافي هذا الحمل ما ذكره من عدم وجوب شيء بترك الوقوف بمزدلفة خوف الزحام فقد جعلوه عذرا مع أنه من قبل العباد كالخوف من العدو في التيمم قلت : قد مر هناك الاختلاف في أن الخوف من العدو ، ومن الله أو من العباد والذي حققه المؤلف هناك وصرح به ابن أمير حاج أنه إن حصل بسبب وعيد من العبد فهو من قبل العباد ، وإلا فمن الله تعالى فإن الخوف مطلقا ، وإن كان منه تعالى خلقا ، وإرادة لكن لما استند إلى مباشرة سبب من العبد أضيف إليه ، وما هنا لم يحصل عن مباشرة سبب له فكان مسندا إليه تعالى [ ص: 61 ]

                                                                                        ( قوله : ثم اختلفوا في تحلل المحصر بعد الوقوف ) قال الرملي المراد بالمحصر الممنوع ; لأنه لا إحصار بعد الوقوف ( قوله : قيل لا يتحلل في مكانه ) أي ليس له أن يحلق في الحل في الحال بل يؤخر الحلق إلى ما بعد طواف الزيارة ( قوله : قال العتابي ، وهو الأظهر ) قال في النهر كأنه لإمكان حمل الإطلاق في الأصل على هذا القيد . ا هـ .

                                                                                        واعترض أولا بأنه يلزم على هذا أن لا يكون بينهما خلاف فيكون معنى ما في الأصل من أنه حرام أي على النساء فقط ويأباه ترجيح العتابي بأن ما في الجامع أظهر إذ على فرض صحة هذا الحمل لم يبق حاجة للترجيح وثانيا بأن قوله في الأصل ، وهو حرام ظاهر في بقاء الإحرام مطلقا في حق النساء وغيرهن فالحق أنه قول مقابل . ا هـ . قلت : قد يجاب بأن عبارة الأصل ، وإن كانت ظاهرة في بقاء الإحرام مطلقا إلا أنها محتملة للتقييد ، ولما كانت عبارة الجامع صريحة في ذلك كانت أظهر إذ لا شك أن الصريح أظهر من المحتمل . ( قول المصنف ومن منع بمكة عن الركنين ) قال : الرملي في الفيض للكركي ، ولو حاضت قبل طواف الزيارة ، ولم تطهر ، وأراد الرفقة العود تهجم وتطوف حائضا وتذبح بدنة ، ولكن لا نفتي بالتهجم فإن لم تطف تبقى محرمة أبدا إلى أن تطوف ، وكذا الرجل لو لم يطفه .




                                                                                        الخدمات العلمية