الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والعمرة سنة ) وقال الشافعي رحمه الله : فريضة لقوله عليه الصلاة والسلام { العمرة فريضة كفريضة الحج } ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { الحج فريضة والعمرة تطوع } ; ولأنها غير مؤقتة بوقت وتتأدى بنية غيرها كما في فائت الحج ، وهذه أمارة النفلية . [ ص: 140 ] وتأويل ما رواه أنها مقدرة بأعمال كالحج إذ لا تثبت الفرضية مع التعارض في الآثار . [ ص: 141 ] قال ( وهي الطواف والسعي ) وقد ذكرناه في باب التمتع ، والله أعلم .

التالي السابق


( قوله : والعمرة سنة ) أي من أتى بها مرة في العمر فقد أقام السنة غير مقيد بوقت غير ما ثبت النهي عنها فيه ، إلا أنها في رمضان أفضل ، هذا إذا أفردها فلا ينافيه أن القران أفضل ; لأن ذلك أمر يرجع إلى الحج لا إلى العمرة . فالحاصل أن من أراد الإتيان بالعمرة على وجه أفضل فيها ففي رمضان أو الحج على وجه أفضل فيه فبأن يقرن معه عمرة . ( قوله : وقال الشافعي رحمه الله : فريضة ) وقال محمد بن الفضل من مشايخ بخارى : فرض كفاية ، وقيل هي واجبة . وجه [ ص: 140 ] قول الشافعي رحمه الله ما رواه الحاكم في المستدرك والدارقطني عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت } قال الحاكم : الصحيح عن زيد بن ثابت من قوله . ا هـ .

وفيه إسماعيل بن مسلم المكي ضعفوه . قال البخاري : منكر الحديث ، وقال أحمد : حذفنا حديثه ، ورواه البيهقي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين موقوفا وهو الصحيح . وأخرج الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه { أن رجلا قال : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وأن تحج وتعتمر } قال الدارقطني : إسناده صحيح . ورواه الحاكم في كتابه المخرج على صحيح مسلم قال صاحب التنقيح : الحديث مخرج في الصحيحين ليس فيه وتعتمر ، وهذه الزيادة فيها شذوذ ، وفيه أحاديث أخر لم تسلم من ضعف أو عدم دلالة . وأخرج الحاكم أيضا عن ابن عمر : { ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان على من استطاع إلى ذلك سبيلا } وعلقه البخاري . وأخرج عن ابن عباس : { الحج والعمرة فريضتان على الناس كلهم إلا أهل مكة فإن عمرتهم طوافهم ، فليخرجوا إلى التنعيم ثم ليدخلوها } الحديث ، وقال على شرط مسلم .

وقال البيهقي : قال الشافعي رحمه الله في مناظرة من أنكر عليه القول بوجوب العمرة : أشبه بظاهر القرآن ; لأنه قرنها بالحج . ولنا ما أخرجه الترمذي عن حجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي ؟ قال لا ، وأن تعتمر فهو أفضل } قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، هكذا وقع في رواية الكرخي ، ووقع في رواية غيره : حديث حسن لا غير . قيل هو الصحيح ، فإن الحجاج بن أرطاة هذا فيه مقال . وقد ذكرنا في باب القران ما فيه وأنه لا ينزل به عن كون حديثه حسنا والحسن حجة اتفاقا ، وإن قال الدارقطني إن الحجاج بن أرطاة لا يحتج به فقد اتفقت الرواة عن الترمذي على تحسين حديثه هذا ، وقد رواه ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر ، وأخرجه الطبراني في الصغير والدارقطني بطريق آخر عن جابر فيه يحيى بن أيوب وضعفه . وروى عبد الباقي بن قانع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الحج جهاد والعمرة تطوع } وهو أيضا حجة ، وقول ابن حزم إنه مرسل رواه معاوية بن إسحاق عن أبي صالح ماهان الحنفي عنه عليه الصلاة والسلام ، وتضعيف عبد الباقي وماهان اعترضه الشيخ تقي الدين في الإمام بأن عبد الباقي بن قانع من كبار الحفاظ وباقي الإسناد ثقات ، [ ص: 141 ] مع أن المرسل حجة عندنا ، وإنما كلامنا على التنزل .

قال : وتضعيف ماهان غير صحيح ، فقد وثقه ابن معين وروى عنه جماعة مشاهير وذكرهم . وقد روي أيضا من حديث ابن عباس وفي سنده مجاهيل . وروى ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { الحج جهاد والعمرة تطوع } وفيه عمرو بن قيس . قال في الإمام : متكلم فيه ا هـ . وهذا القدر لا يخرج حديثه عن الحسن فلا ينزل عن مطلق الحجية . وأخرج ابن أبي شيبة من حديث أبي أسامة عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " الحج فريضة والعمرة تطوع " وكفى بعبد الله قدوة . فبعد إرخاء العنان في تحسين حديث الترمذي تعدد طرقه يرفعه إلى درجة الصحيح على ما حققناه ، كما أن تعدد طرق الضعيف يرفعه إلى الحسن ; لضعف الاحتمال بها ، وقد تحقق ذلك فقام ركن المعارضة ، والافتراض لا يثبت مع المعارضة ; لأن المعارضة تمنعه عن إثبات مقتضاه ، ولا يخفى أن المراد من قول الشافعي رحمه الله الفرض الظني وهو الوجوب عندنا ، ومقتضى ما ذكرناه أن لا يثبت مقتضى ما رويناه أيضا ; للاشتراك في موجب المعارضة . فحاصل التقرير حينئذ تعارض مقتضيات الوجوب والنفل فلا يثبت ويبقى مجرد فعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ، وذلك يوجب السنية فقلنا بها ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

[ فروع ] وإن استفيد شيء منها مما تقدم فإني لا أكره تكرارها ، فإن تعدد المواقع يوسع باب الوجدان وهو المقصود . إحرام فائت الحج حال التحلل بالعمرة إحرام الحج عند أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف رحمه الله يصير إحرام عمرة ، وعند زفر المفعول أيضا أفعال الحج من الطواف والسعي ; لأنه حين عجز عن الكل فإنه يتحلل بما يقدر عليه . الثابت شرعا التحلل بعد الوقوف لا قبله ، ولا تحلل إلا بطواف بعد فوات وقت الوقوف ، فلو قدم محرم بحجة فطاف وسعى ثم خرج إلى الربذة مثلا فأحصر بها حتى فاته الحج فعليه أن يحل بعمرة ، ولا يكفيه طواف التحية والسعي في التحلل حتى لو كان قارنا ، والمسألة بحالها لا يجب عليه قضاء عمرته التي قرنها ; لأنه أداها ، وإن كان قارنا ولم يطف شيئا حتى فاته يطوف الآن لعمرته ; لأنها لا تفوت ويسعى ، ولا يقطع التلبية عندها ، وإنما يقطعها إذا أخذ في الطواف الذي يتحلل به عن الإحرام في الحج .

ومن فاته الحج فمكث حراما حتى دخلت أشهر الحج من قابل فتحلل بعمرة ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعا ، وهذا مما يدل على أن إحرام حجه باق ، إذ لو انقلب إحرام عمرة كان متمتعا إذ لا يمنع من التمتع تقدم إحرام العمرة على أشهر الحج بعد أن أوقع أفعالها في أشهر الحج ، وليس لفائت الحج أن يحج بذلك الإحرام ، وإن قلنا ببقاء إحرام حج ، حتى لو مكث محرما إلى قابل لم يفعل أفعال عمرة التحلل ، وأراد أن يحج ليس له ذلك ; لأن موجب إحرام حجه تغير شرعا بالفوات فلا يترتب عليه غير موجبه ، فلا يتمكن أبو يوسف في الاستدلال بهذا على صيرورتها إحرام عمرة ، ولا فرق في وجوب [ ص: 142 ] التحلل بعمرة بين كون الفوات حال الصحة أو بعدما فسد بالجماع . ولو فاته الحج فأهل بأخرى طاف للفائتة وسعى ورفض التي أدخلها ; لأنه قبل التحلل بالعمرة جامع بين إحرامي حجتين ، وعليه فيها ما على الرافض .

ولو نوى بهذه التي أهل بها قضاء الفائتة لم يلزمه بهذا الإهلال شيء سوى التي هو فيها ; لأن إحرامه بعد الفوات باق ، ونية إيجاد ما هو موجود لغو فيتحلل بالطواف والسعي ويقضي الفائت فقط ، فلو كان أهل بعمرة رفضها أيضا ; لأنه جامع بين عمرتين إحراما على قول أبي يوسف وعملا على قولهما . ولو أهل رجل بحجتين فقدم مكة وقد فاته الحج تحلل بعمرة واحدة لا بعمرتين ; لأنه بالترك والشروع رفض إحداهما ، والتحلل بالعمرة إنما يجب لغير ما رفض وذلك واحدة .




الخدمات العلمية