الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3277 118 - حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثني محمد، حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا همام، عن إسحاق بن عبد الله قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس! قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر - هو شك في ذلك؛ أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر - فأعطي ناقة عشراء فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس! قال: فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال: فأعطاه بقرة حاملا وقال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس! فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: قال: الغنم. فأعطاه شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل ولهذا واد من بقر ولهذا واد من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري! فقال له: إن الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل [ ص: 48 ] ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري! فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من لفظ الحديث.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه من طريقين ورجالهما ثمانية؛ الأول: أحمد بن إسحاق بن الحصين أبو إسحاق السلمي السرماري - بضم السين المهملة وتشديد الراء المفتوحة وقيل: بسكونها - نسبة إلى سرمارة قرية من قرى بخارى، وهو من أقران البخاري وأفراده، مات يوم الاثنين لست ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين ومائتين. الثاني: عمرو - بفتح العين المهملة - ابن عاصم بن عبيد الله القيسي الكلابي البصري. الثالث: همام بن يحيى العوذي الأزدي البصري. الرابع: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، واسمه زيد بن سهل الأنصاري، ابن أخي أنس بن مالك، مات سنة أربع وثلاثين ومائة، وليس له في البخاري عن عبد الرحمن بن أبي عمرة سوى هذا الحديث وآخر في التوحيد. الخامس: عبد الرحمن بن أبي عمرة، واسمه عمرو بن محصن الأنصاري النجاري، قاضي أهل المدينة. السادس: أبو هريرة رضي الله عنه. السابع في السند الثاني: محمد؛ كذا مجردا، قال الجياني: لعله محمد بن يحيى الذهلي. ويقال: إنه البخاري نفسه، والدليل عليه أنه روى عن عبد الله بن رجاء وهو أحد مشايخه، روى عنه في اللقطة وغيرها بلا واسطة. الثامن: عبد الله بن رجاء بن المثنى البصري أبو عمرو، مات سنة تسع عشرة ومائتين.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأيمان والنذور وقال عن عمرو بن عاصم، وأخرجه مسلم في آخر الكتاب عن شيبان بن فروخ.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه): قوله: (بدا لله) بتخفيف الدال المهملة بغير همزة، كذا ضبطه بعضهم، ثم قال: أي: سبق في علم الله فأراد إظهاره، وليس المراد أنه ظهر له بعد أن كان خافيا؛ لأن ذلك محال في حق الله تعالى. وقال الكرماني: وقد روى بعضهم " بدا الله " وهو غلط. وقال صاحب المطالع: ضبطناه على متقني شيوخنا بالهمزة؛ أي ابتدأ الله أن يبتليهم. قال: ورواه كثير من الشيوخ بغير همز وهو خطأ. وقال الخطابي: معناه: قضى الله أن يبتليهم؛ لأن القضاء سابق. وفي رواية مسلم عن شيبان بن فروخ عن همام بهذا الإسناد بلفظ: " أراد الله أن يبتليهم "؛ أي: يختبرهم. ويروى " يبليهم " بإسقاط التاء المثناة من فوق.

                                                                                                                                                                                  قوله: (قد قذرني الناس) بكسر الذال المعجمة؛ أي: كرهني الناس، ويروى " قد قذروني الناس " من باب أكلوني البراغيث، كذا قاله الكرماني.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فمسحه)؛ أي: مسح على جسمه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأعطي) على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقال: وأي المال)، وفي رواية الكشميهني: " أي المال " بلا واو.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أو قال: البقر) شك في ذلك، وصرح في رواية مسلم أن الذي شك هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة راوي الحديث.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأعطي ناقة)؛ أي: الذي تمنى الإبل أعطي ناقة عشراء - بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة ممدودا - وهي الحامل التي أتى عليها في حملها عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل، وقيل: يقال لها ذلك إلى أن تلد وبعدما تضع، وهي من أنفس المال.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يبارك لك فيها) كذا وقع بضم الياء، وفي رواية شيبان " بارك الله " بلفظ الفعل الماضي وإظهار الفاعل.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فمسحه)؛ أي: فمسح على عينيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: (شاة والدا)؛ أي: ذات ولد، وقال الجوهري: شاة والدا أي حامل، والشاة تذكر وتؤنث، وفلان كثير الشاة، وهو في معنى الجمع.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فأنتج هذان)؛ أي: صاحب الإبل والبقر، كذا وقع " أنتج " وهي لغة قليلة، والفصيح عند أهل اللغة نتجت الناقة بضم النون ونتج الرجل الناقة أي: حمل عليها الفحل، وقد سمع أنتجت الفرس أي: ولدت فهي نتوج ولا يقال منتج.

                                                                                                                                                                                  قوله: (وولد هذا) بتشديد اللام المفتوحة؛ أي: صاحب الشاة، وراعى عرف الاستعمال حيث قال في الإبل والبقر: " أنتج " وفي الغنم " ولد ".

                                                                                                                                                                                  قوله: (من الغنم)، ويروى " من غنم ".

                                                                                                                                                                                  قوله: (في صورته)؛ أي: في الصورة [ ص: 49 ] التي كان عليها لما اجتمع به وهو أبرص.

                                                                                                                                                                                  قوله: (رجل مسكين)، زاد شيبان " وابن سبيل "، قال ابن التين: قول الملك له: " رجل مسكين... " إلى آخره أراد أنك كنت هكذا، وهو من المعاريض، والمراد به ضرب المثل ليتيقظ المخاطب.

                                                                                                                                                                                  قوله: (الحبال) بكسر الحاء المهملة وبعدها باء موحدة مخففة جمع حبل، أراد به الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق، وقيل: العقبات. قال الكرماني: ويروى بالجيم، وقيل: هو تصحيف. وفي التوضيح: ويروى " الحيل " جمع حيلة؛ يعني لم يبق لي حيلة.

                                                                                                                                                                                  قوله: (أتبلغ عليه)، وفي رواية الكشميهني: أتبلغ به - وهو بالغين المعجمة من البلغة وهي الكفاية، والمعنى: أتوصل به إلى مرادي، يقال: تبلغ بكذا أي اكتفى به.

                                                                                                                                                                                  قوله: (يقذرك الناس) بفتح الذال المعجمة؛ لأنه من باب علم يعلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقيرا) نصب على الحال.

                                                                                                                                                                                  قوله: (كابرا عن كابر)، هكذا رواية الكشميهني، وفي رواية غيره " لكابر عن كابر "، وفي رواية شيبان " إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر "، قال بعضهم: أي: كبيرا عن كبير في العز والشرف. قلت: أخذه من كلام الكرماني وليس كذلك، وإنما المعنى: ورثت هذا المال عن آبائي وأجدادي حال كون كل واحد منهم كابرا عن كابر؛ أي: كبيرا ورث عن كبير.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فصيرك الله)، وإنما أورده بلفظ الفعل الماضي لإرادة المبالغة في الدعاء عليه، وإنما أدخلت الفاء فيه لأنه دعاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فوالله لا أجهدك اليوم) بالجيم والهاء، كذا في رواية كريمة وأكثر روايات مسلم؛ أي: لا أشق عليك في رد شيء تطلبه مني أو تأخذه، وقال عياض: رواية البخاري لم تختلف أنه " لا أحمدك " بالحاء المهملة والميم؛ يعني لا أحمدك على ترك شيء تحتاج إليه من مالي. وقوله: " رواية البخاري لم تختلف " ليس كذلك، فإن رواية كريمة بالجيم والحاء كما ذكرناه، وقال عياض: لم يتضح هذا المعنى لبعض الناس فقال: لعله " لا أحدك " بالحاء المهملة وتشديد الدال بغير ميم؛ أي: لا أمنعك. قال: وهذا تكلف. وقال الكرماني ما حاصله: إنه يحتمل أن يكون قوله: " لا أحمدك " بتشديد الميم؛ أي: لا أطلب منك الحمد، فيكون من قولهم: فلان يتحمد علي أي: يمتن، ويكون المعنى هنا لا أمتن عليك، يقال: من أنفق ماله على نفسه فلا يتحمد به على الناس.

                                                                                                                                                                                  قوله: (إنما ابتليتم)؛ أي: إنما امتحنتم.

                                                                                                                                                                                  قوله: (فقد رضي الله عنك...) إلى آخره، ويروى: " ورضي عنك " على بناء المجهول، وكذلك " سخط " مثله، وكان الأعمى خير الثلاثة. قال الكرماني رحمه الله: ولا شك أن مزاجه كان أقرب إلى السلامة من مزاجهما؛ لأن البرص لا يحصل إلا من فساد المزاج وخلل في الطبيعة، وكذلك ذهاب الشعر أيضا - بخلاف العمى فإنه لا يستلزم فساده، فقد يكون من أمر خارجي.



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية