الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأيضا فقولك: علم أن الآمر لها غيرها، وهو غير جسم، لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها - كلام لا حجة فيه، لوجهين:

أحدهما: أنه مسخر للعقول: ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة، فلماذا يلزم إذا كان مسخرا للأجسام، أن يكون من الأجسام [ ص: 223 ] المسخرة؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة، فلا يلزم أيضا إذا قيل: هو قائم بنفسه، أو هو حي عليم قدير، أو هو جوهر، أو جسم أو ذات، أو غير ذلك، أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس.

الثاني: أنه لم لا يجوز أن يكون خارجا عن جملة المسخرات المأمورة كما أنه قائم بنفسه، وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها، وهو موصوف. وهو آمر لموصوفات، وأمثال ذلك. وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق، لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلا للمأمور.

وأيضا فإنك قلت: لو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون، وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر، ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر، ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين، لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي به صارت موجودة.

وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر، كما يقولون: لا توجد الأفلاك إلا بالحركة، وهي قبول الأمر، أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر، وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك. [ ص: 224 ]

ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته، أعظم من حاجة ما دونها إليها: فكيف يقال في هذا: لا يوجد إلا به؟ ويقال في ذلك: لا يوجد إلا بقبول الأمر؟

ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها، كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار.

ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلا بإبداع ما في الأرض، وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم، كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح، وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس، وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب.

وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة، وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل، أو محبوب منفصل يحب التشبه به، فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك.

ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك، لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه، وهم لم يقروا ذلك. وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، لكن يمكن تقريره بأن يقال: إذا كان قوامها بحركتها، وقوام حركتها به، فقوامها به، وإذا كان قوامها [ ص: 225 ] به، امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها، لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره.

وإذا كان الفلك متحركا بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود، فيكون ممكن الوجود بنفسه. وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، فيجب أن يكون مفتقرا إلى مبدع فاعل، كما كان مفتقرا إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به.

فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود. لكن هم لم يذكروا هذا، وهم في اصطلاحهم يسمون الواجب بغيره ممكنا. وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم، لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكنا لا واجبا بنفسه بهذه الطريق، فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه، وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر.

ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكنا مصنوعا، صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه.

التالي السابق


الخدمات العلمية