الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        كل عمل جاز الاستئجار عليه ، جاز جعله صداقا ، وذلك كتعليم القرآن والصنائع ، وكالخياطة والخدمة والبناء وغيرها ، وفيه مسائل .

                                                                                                                                                                        إحداها : يشترط في تعليم القرآن ليصح صداقا شرطان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : العلم بالمشروط ، تعليمه بأحد طريقين .

                                                                                                                                                                        الأول : بيان القدر الذي يعلمه بأن يقول : كل القرآن أو السبع الأول أو الأخير . وحكي وجه شاذ : أنه لا يشترط تعيين السبع . فإن عين بالسور والآيات ، فعلى ما ذكرناه في الإجارة ، وذكرنا هناك الخلاف في اشتراط قراءة نافع وأبي عمرو وغيرهما . وقطع ابن كج هنا بعدم الاشتراط قال : فلو شرط حرف أبي عمرو ، علمها بحرفه ، فإن علمها بحرف الكسائي ، فهل يستحق أجرة المثل ، أم لا شيء له ؟ وجهان . وحكى قولين في أنها ترجع على الزوج بمهر المثل ، أم بقدر التفاوت بين أجرة التعليم بالحرف المشروط والآخر ؟ فإن لم يكن تفاوت ، [ ص: 305 ] لم يرجع بشيء ثم قال : ولا معنى لهذا الاختلاف ، بل الواجب أن يقال : يعلمها بحرف أبي عمرو وهو متطوع بما علم . ثم العلم بهذا يشترط في حق الزوج ، فإن لم يعرف أحدهما أو كلاهما قدر السور والأجزاء والآيات ، قال أبو الفرج الزاز : الطريق التوكيل ، وإلا فيرى المصحف ، ويقال : تعلم من هذا الموضع إلى هذا ، ولك أن تقول : لا يكفي هذا ، إذ لا يعرف به صعوبته وسهولته .

                                                                                                                                                                        قلت : الصواب أنه لا تكفي الإشارة إذا لم يعلمها فيتعين التوكيل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الطريق الثاني : تقديرها بالزمان ، بأن يصدقها تعليم القرآن شهرا ، ويعلمها فيه ما شاءت ، كما يخيط الأجير للخياطة ما شاء المستأجر . فلو جمع الطريقين فقال : تعلمها في شهر سورة البقرة ، فهو كقوله : استأجرتك لتخيط هذا الثوب اليوم ، وفيه خلاف سبق في الإجارة .

                                                                                                                                                                        الشرط الثاني : أن يكون المعقود على تعليمه قدرا في تعليمه كلفة ، فإن لم يكن ، بأن شرط تعليم لحظة لطيفة ، أو قدر يسير وإن كان آية ، كقوله تعالى : ثم نظر لم يصح الإصداق وهو كبيع حبة حنطة .

                                                                                                                                                                        الثانية : أصدقها تعليم الفاتحة وهو متعين للتعليم ، ففي صحة الإصداق وجهان ، كنظيره في الإجارة . أصحهما : الصحة . ولو نكحها على أداء شهادة لها عنده ، أو نكح كتابية على أن يلقنها كلمة الشهادة ، لم يصح الصداق ، قاله البغوي .

                                                                                                                                                                        [ ص: 306 ] الثالثة : إذا كان الزوج لا يحسن ما شرط تعليمه ، فإن التزم التعليم في الذمة ، جاز ثم يأمر بتعليمها أو يتعلم ويعلمها . وإن كان الشرط أن يعلمها بنفسه ، فهل يصح ثم يتعلم ويعلمها ، أم لا يصح لعجزه ؟ وجهان . أصحهما : الثاني .

                                                                                                                                                                        ولو شرط أن يتعلم ثم يعلمها ، لم يصح أيضا ; لأن العمل متعلق بعينه ، والأعيان لا تقبل التأجيل . قال المتولي : فإن صححنا فأمهلته ليتعلم ، فذاك ، وإلا فهو معسر بالصداق . ولو أراد الزوج أن يقيم غيره يعلمها ، جاز إن كان التزم في الذمة ، وإلا فلا . ولو أرادت أن تقيم غيرها متعلما ، فهل يجبر الزوج كالمستأجر للركوب يركب غيره ، أم لا لاختلاف الناس في الفهم والحفظ ؟ وجهان . أصحهما عند الجمهور : الثاني ، وخالفهم الإمام ، ومنهم من جعل الخلاف في جواز الإبدال مع التراضي . ولو فرض عقد مجدد ، فأبدلت منفعة بمنفعة ، جاز قطعا .

                                                                                                                                                                        الرابعة : أصدقها تعليم ولدها ، لم يصح الصداق كما لو شرط الصداق لولدها . وإن أصدقها تعليم غلامها ، قال البغوي : لا يصح كالولد . وقال المتولي : يصح ، وهذا أصح . ولو وجب عليها تعليم الولد أو ختان العبد ، فشرطته صداقا ، جاز .

                                                                                                                                                                        الخامسة : لو تعذر التعليم ، بأن تعلمت من غيره ، أو كانت بليدة لا تتعلم ، أو لا تتعلم إلا بكلفة عظيمة ويذهب الوقت في تعليمها فوق العادة ، أو ماتت أو مات الزوج والشرط أن يعلم بنفسه ، ففي الواجب القولان السابقان فيما لو تلف الصداق قبل القبض . فعلى الأظهر : يجب مهر المثل ، وعلى الآخر : أجرة التعليم .

                                                                                                                                                                        السادسة : قال : علمتك وأنكرت ، فإذا لم تحسنه ، صدقت ، وإن أحسنته [ ص: 307 ] وادعت التعلم من غيره ، فأيهما يصدق ؟ وجهان لتعارض الأصل والظاهر ، أصحهما : هي .

                                                                                                                                                                        السابعة : أصدقها تعلم سورة ، فعلمها ثم طلقها ، إن كان بعد الدخول ، فذاك ، وإلا ، فيرجع عليها بنصف أجرة التعليم ، وإن طلقها قبل التعليم ، فقد استحقت جميع التعليم إن دخل ، وإلا ، فتعليم النصف ، وفيه وجهان . أحدهما : يعلمها وراء حجاب بغير خلوة . وأصحهما وهو المنصوص في " المختصر " : أنه قد تعذر التعليم ; لأنها قد صارت أجنبية ، ولا تؤمن مفسدة . فعلى هذا : ترجع بمهر المثل على الأظهر إن دخل ، وإلا فنصفه ، وعلى الآخر : ترجع بأجرة التعليم أو نصفها .

                                                                                                                                                                        الثامنة : نكح كتابية على تعليم القرآن ، فإن توقع إسلامها ، صح الصداق ، وإلا فسد ، ومال جماعة إلى الجواز مطلقا . ولو نكح مسلمة أو كتابية على تعليم التوراة والإنجيل ، لم يصح ; لأنه يجوز الاشتغال به لتبديله ، والواجب في هذه الحالة مهر المثل قطعا ، إذ لا قيمة للمسمى . ولو نكح ذمي على تعليم التوراة والإنجيل ، ثم أسلما أو ترافعا بعد التعليم ، لم نوجب شيئا آخر ، وإن كان قبل التعليم ، أوجبنا مهر المثل كما في الخمر .

                                                                                                                                                                        التاسعة : أصدقها تعليم فقه ، أو أدب أو طب أو شعر ونحوها مما ليس بمحرم ، صح الصداق . وإن كان محرما كالهجو والفحش ، لم يصح .

                                                                                                                                                                        العاشرة : نكحها على أن يرد عبدها الآبق ، أو جملها التائه وكان الموضع معلوما ، صح . وإن كان مجهولا ، فقولان . أحدهما : يصح كالجعالة . والمشهور : المنع ، ويجب مهر المثل ، بخلاف الجعالة ، فإنها عقد جائز احتملت الجهالة فيها للحاجة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 308 ] فإن رده ، فله أجرة مثل الرد ، ولها مهر المثل . وإذا صح الصداق ، فطلقها بعد رد العبد وقبل الدخول ، استرد منها نصف أجرة المثل . وإن طلقها قبل الرد ، فإن كان بعد الدخول ، فعليه الرد . وإن كان قبله ، فعليه الرد إلى نصف الطريق ، ثم يسلمه إلى الحاكم . فإن لم يكن حاكم ، أو لم يكن موضعا يمكن تركه فيه ، ولم يتبرع بالرد إليها ، قال المتولي : يؤمر برده إليها ، وله عليها نصف أجرة المثل . ولو تعذر رده برد غيره ، أو رجوعه بنفسه أو بموته ، فقد فات الصداق قبل القبض ، فترجع إلى مهر المثل على الأظهر ، وعلى الآخر : إلى أجرة الرد .

                                                                                                                                                                        الحادية عشرة : نكحها على خياطة ثوب معلوم ، جاز ، وله أن يأمر بالخياطة إن التزم في الذمة ، وإن نكح على أن يخيط بنفسه ، فعجز بأن سقطت يده أو مات ، ففيما عليه ؟ قولان . أظهرهما : مهر المثل . والثاني : أجرة الخياطة . ولو تلف ذلك الثوب ، فوجهان . أصحهما : تلف الصداق فيعود القولان في مهر المثل والأجرة . والثاني : تأتي بثوب مثله ليخيطه . وإن طلقها بعد الخياطة قبل الدخول ، فله عليها نصف أجرة المثل . وإن طلقها قبل الخياطة ، فإن دخل بها ، فعليه الخياطة ، وإلا خاط نصفه . فإن تعذر الضبط ، عاد القولان في أنه يجب مهر المثل أم الأجرة ؟

                                                                                                                                                                        الثانية عشرة : قال المتولي : لو كان له عليها قصاص فنكحها ، وجعل النزول عن القصاص صداقا ، جاز . ولو جعل النزول عن الشفعة ، أو حد القذف صداقا ، لم يجز ; لأنه لا يقابل بمال ، ولا يجوز جعل طلاق امرأة صداقا لأخرى ، ولا بضع أمته صداق المنكوحة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 309 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية