الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل السابع : حكم من وصف نفسه بصفة من صفات الأنبياء عليهم السلام

          الوجه الخامس : أن لا يقصد نقصا ، ولا يذكر عيبا ولا سبا ، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله - صلى الله عليه وسلم - الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل ، والحجة لنفسه أو لغيره ، أو على التشبه به ، أو عند هضيمة نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي ، وطريق التحقيق ، بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره ، أو على سبيل التمثيل ، وعدم التوقير لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، أو على قصد الهزل والتنذير بقوله ، كقول القائل : إن قيل في السوء فقد قيل في النبي ، وإن كذبت فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبت فقد أذنبوا ، أو أنا أسلم من ألسنة الناس ، ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله ، أو قد صبرت كما صبر أولو العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبي الله عن عداه ، وحلم على أكثر مما صبرت ، وكقول المتنبي :


          أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود



          ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول ، المتساهلين في الكلام ، كقول المعري :


          كنت موسى ، وافته بنت شعيب     غير أن ليس فيكما من فقير



          على أن آخر البيت شديد وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتفضيل حال غيره عليه . وكذلك قوله : [ ص: 556 ]

          لولا انقطاع الوحي بعد محمد     قلنا محمد عن أبيه بديل
          هو مثله في الفضل إلا أنه     لم يأته برسالة جبريل



          فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد ، لتشبيهه غير النبي صلى الله عليه وسلم في فضله بالنبي ، والعجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح ، والآخر استغناؤه عنها . وهذا أشد .

          ونحو منه قول الآخر :


          وإذا ما رفعت راياته     صفقت بين جناحي جبرين



          وقول الآخر من أهل العصر :


          فر من الخلد واستجار بنا     فصبر الله قلب رضوان



          وكقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ، ووزيره أبي بكر بن زيدون :


          كأن أبا بكر أبو بكر الرضا     ، وحسان حسان وأنت محمد



          إلى أمثال هذا وإنما أكثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ، ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك ، واستخفافهم فادح هذا العبء ، وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، وكلامهم منه بما ليس لهم به علم ، ويحسبونه هينا ، وهو عند الله عظيم ، لاسيما الشعراء . وأشدهم فيه تصريحا ، وللسانه تسريحا ، ابن هانئ الأندلسي ، وابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما إلى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر .

          وقد أجبنا عنه ، وغرضنا الآن الكلام في الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ، ولا أضافت إلى الملائكة ، والأنبياء نقصا ، ولست أعني عجزي بيتي المعري ، ولا قصد قائلها إزراء وغضا ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزز حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة حتى شبه من شبه في كرامة نالها ، أو معرة قصد الانتقاء منها ، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف [ ص: 557 ] لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره ، وشرف قدره ، وألزم توقيره وبره ، ونهى عن جهر القول له ، ورفع الصوت عنده .

          فحق هذا إن درئ عنه القتل : الأدب والسجن ، وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ، ومقتضى قبح ما نطق به ، ومألوف عادته لمثله ، أو ندوره وقرينة كلامه ، أو ندمه على ما سبق منه ، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، وقد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله :


          فإن يك باقي سحر فرعون فيكم     فإن عصا موسى بكف خصيب



          وقال له : يا ابن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ! ، وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته .

          وذكر اليقتبي أن مما أخذ عليه أيضا ، وكفر فيه ، أو قارب قوله في محمد الأمين ، وتشبيهه إياه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قال :


          تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها     خلقا وخلقا كما قد الشراكان



          وقد أنكروا عليه أيضا قوله :


          كيف لا يدنيك من أمل     من رسول الله من نفره



          لأن حق الرسول ، وموجب تعظيمه وإناقة منزلته أن يضاف إليه ، ولا يضاف .

          فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس - رحمه الله - ، وأصحابه :

          ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم عنه في رجل عير رجلا بالفقر ، فقال : تعيروني بالفقر ، وقد رعى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنم ؟ فقال مالك : قد عرض بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير موضعه ، أرى أن يؤدب ، قال : ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا .

          وقال عمر بن عبد العزيز لرجل : انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا . فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافرا ، فقال : " جعلت هذا مثلا ! " فعزله ، وقال : لا تكتب لي أبدا .

          وقد كره سحنون أن [ ص: 558 ] يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند التعجب إلا على طريق الثواب ، والاحتساب ، توقيرا له ، وتعظيما ، كما أمرنا الله .

          وسئل القابسي عن رجل قال لرجل قبيح كأنه وجه نكير ، ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان فقال : أي شيء أراد بهذا ، ونكير أحد فتاني القبر ، وهما ملكان فما الذي أراد ! أروع دخل عليه حين رآه من وجهه ؟ أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه ، فإن كان هذا فهو شديد ، لأنه جرى مجرى التحقير والتهوين ، فهو أشد عقوبة ، وليس تصريح بالسب للملك ، وإنما السب واقع على المخاطب . وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء ، قال : وأما ذاكر مالك خازن النار فقد جفا الذي ذكره عندما أنكر حاله من عبوس الآخر إلا أن يكون المعبس له يد فيرهب بعبسته ، فيشبهه القائل على طريق الذم لهذا في فعله ، ولزومه في ظلمه صفة مالك الملك المطيع لربه في فعله ، فيقول كأنه لله يغضب غضب مالك ، فيكون أخف ، وما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا ولو كان أثنى على العبوس بعبسته ، واحتج بصفة مالك كان أشد ، ويعاقب المعاقبة الشديدة ، وليس في هذا ذم للملك ، ولو قصد ذمه لقتل .

          وقال أبو الحسن أيضا في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئا ، فقال الرجل : اسكت ، فإنك أمي . فقال الشاب : أليس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أميا ! فشنع عليه مقاله ، وكفره الناس ، وأشفق الشاب مما قال ، وأظهر الندم عليه ، فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ في استشهاده بصفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكون النبي أميا آية له ، وكون هذا أميا نقيصة فيه وجهالة .

          ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله فيترك ، لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل ، وما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه .

          ونزلت أيضا مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور - رحمه الله - في رجل تنقصه آخر بشيء ، فقال له : إنما تريد نقصي بقولك ، وأنا بشر ، وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأفتاه بإطالة سجنه ، وإيجاع أدبه ، إذ لم يقصد السب ، وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية