الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 815 ] والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير ( 234 ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم

                                                          * * *

                                                          في الآيات السابقات بين سبحانه إنشاء الزواج ، وما ينبغي أن يكون في الاختيار وما يجب ، ثم بين العشرة الزوجية ، ثم بين الفراق بين الزوجين والأحكام التي تتبع عند الافتراق ، وأن الزواج إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وأنه إذا لم يكن واحدا منهما فهو الكفر في الإسلام ، أو الجهل بأحكامه أو الزيغ عن قانونه ، والخروج من ربقته ونظامه ; ثم أشار سبحانه إلى حقوق ثمرة الزواج في حالي الوفاق والخلاف ، وأنها حقوق مقررة في الحالين .

                                                          وبعد ذلك بين الحكم إذا فرق بين الزوجين الموت ، فذكر القيود المعقولة التي تقيد بها المرأة ، وبعدها تكون الحرية التي يكون من آثارها اختيار الزوج الكفء ، فقال تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا في هذه الآية الكريمة يتبين عدة المتوفى عنها زوجها ، وهي أربعة أشهر قمرية وعشرة [ ص: 816 ] أيام ; وعبر سبحانه عن العشر بما يدل على أن المعدود مؤنث ; إذ إنه حذف التاء ، فدل على أن المراد عشر ليال والمؤدى واحد ، ولكن التعبير بالليالي فيه فائدة أكبر من التعبير بالأيام ; لأن فيه إشارة إلى أن تقدير الأشهر بالقمرية كما نوهنا ; لأن الليالي هي التي تعرف فيها أحوال القمر وأدواره ; فكان التعبير بها توجيها لما يكون فيها ، وهو القمر بأطواره وأحواله .

                                                          وقبل أن نخوض في حكمة تقدير عدة الوفاة ذلك التقدير ، وما يعارض ظاهرها في سورة الطلاق ; وما كان عليه العرب من عادات في حداد المرأة على زوجها ; قبل ذلك نذكر بعض مباحث لفظية في تلك الجملة السامية .

                                                          وأول تلك المباحث اللفظية ، هو في كلمة ( يتوفون ) بالبناء للمجهول ، ولم تقرأ غير ذلك ; لأن الفعل توفي متعد ; فالله سبحانه وتعالى يقول : الله يتوفى الأنفس حين موتها فإذا لم يذكر الفاعل بني للمفعول .

                                                          وثانيها : في كلمة " يذرون " معناها يتركون ; وقد ادعى علماء النحو أنه من الأفعال التي مات ماضيها ، ولم يعرف إلا فعل المستقبل لها ; مضارعا كان أو أمرا ; ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري ما دل على أن ماضيها حي وليس بميت ; فقد جاء فيه ما نصه : ( ذره واحذره والعرب أماتت المصدر منه فيقولون : ذر تركا ، وإذا قيل لهم ذروه قالوا وذرناه ) .

                                                          ونرى من هذا أن ذلك العالم اللغوي العظيم لم يعترف إلا بأن العرب أماتوا المصدر ، أما الماضي فلم يميتوه ، وذكر الاستعمال الذي يدل على حياته ، فقال : ( إنهم إذا قيل لهم : ذروه . قالوا : وذرناه ) .

                                                          وثالث المباحث اللفظية : في كلمة " أزواج " وهي جمع لزوج ، وهو كلمة تفيد بأصل معناها الدلالة على اثنين اتحدا في الخواص والصفات وكل المشخصات حتى صار كل واحد منهما صورة كاملة من الثاني ، وكأنه هو في شخصه ; ولذلك أطلق [ ص: 817 ] على كل واحد منهما بأنه زوج ، وأطلق على كل واحد من الرجل والمرأة بعد ذلك العقد المقدس بأنه زوج ; لأنه ثاني اثنين قد امتزجت حياتهما ، وتلاءمت شخصياتهما حتى صار كل واحد منهما كأنه صورة من الآخر ، وكأنه شخصه في كونه ووجوده لما ارتبطا به من حياة ، ولكمال الخلطة بينهما ، ولتماثل الحقوق والواجبات عليهما ولاتحاد شخصيتهما بذلك الزواج الموحد بينهما .

                                                          ورابع المباحث اللفظية : في كلمة " يتربصن " والتربص معناه الانتظار ; فقد قال تعالى : فتربصوا به حتى حين وقال تعالى : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر وقال تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون وفي كل هذه الآيات الكريمة كان التربص معناه الانتظار مع الترقب ; والتربص من المتوفى عنها زوجها في هذا المعنى تقريبا .

                                                          و " يتربصن " هي خبر في معنى الطلب فالمعنى ليتربصن ، كقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين وفي ذلك إشارة إلى أن التربص أمر نظري يتلاقى مع الأمر الشرعي ; فإن الحرة الكريمة لا ترضى لنفسها ولا ترضى معها أسرتها أن تتزوج فور وفاة زوجها ، أو بعدها بمدة قليلة ; فإن ذلك أمر مستهجن في الفطرة السليمة ، وفي الشرع الحكيم ، وفي عرف الناس ، ولا ترضى العقول به والمدارك الصحيحة .

                                                          وكان مع ذلك التعبير بقوله تعالى : بأنفسهن فيه إشارة إلى أن ذلك التربص فيه صيانة لأنفسهن ، وحفظ لكرامتهن ، ودفع لمعنى الامتهان والعار الذي يلحق المرأة من أن يموت ضجيعها ، فلا تلبث إلا قليلا بعد أن يسجى ويدفن ، حتى تعرض نفسها طالبة الأزواج ، كأنه ليس المتوفى عشيرا أليفا يستحق الحداد .

                                                          وقد حد الشارع للمتوفى عنها زوجها عدة هي في جملتها أكثر من عدة المطلقات ; لأن تلك ثلاثة قروء تجيء عادة في نحو ثلاثة أشهر - وهنا يرد سؤالان : [ ص: 818 ] أولهما : لماذا كانت العدة في المتوفى عنها زوجها بالأشهر دون الحيض ، فلم تجعل أربع حيضات بدل ثلاثة ؟ . . ولماذا كانت الزيادة ؟

                                                          ولم نجد أحدا تصدى لبيان الحكمة في جعلها بالأشهر ، ويبدو لنا أن الحكمة التي تدركها عقولنا - وإن كانت الحكمة الشرعية السامية قد تعلو على مداركنا - هي أن عدة الوفاة تكون للمدخول بها وغير المدخول بها ، وللصغيرة والكبيرة ، والأساس فيها هو الحداد على الزواج السابق الذي انتهى بوفاة أحد ركنيه ، فلزم أن يكون بأمر يشترك فيه الجميع ما دام السبب واحدا في الجميع ; وفوق ذلك إن العدة في الوفاة لو قدرت بالحيض ، وهو أمر لا يعلم إلا من جهة المرأة ، فربما تدفعها الرغبة في الزواج إلى الكذب فتدعيه وهو لم يقع ; وفي المطلقات العدة حق للمطلق فيستطيع أن ينكر عليها ، أو يظهر كذبها ، وهي تخشى صولته ، فتبتعد ما أمكن عن المراء ; أما في حال الوفاة فصاحب الحق الأول قد مات وصار الحق لله خاصا ، فحد ذلك الحق بالأشهر والأيام حتى لا يكون مساغا للكذب وادعاء ما لم يحصل ; لأن الأيام والأشهر تعرف بالكتاب والحساب ، وليست أمرا يعرف من جهتها فقط .

                                                          أما الجواب عن الأمر الثاني وهو : لماذا كانت العدة بالوفاة أكثر في الجملة من العدة الناشئة عن الطلاق ; فيبدو بادي الرأي ، من الفرق بين حال الطلاق وحال الوفاة ، أن الطلاق نتيجة شقاق ; فالحداد على الزوج الذي ينشئه ليس قويا ، ومعنى براءة الرحم وإعطاء الزوج فرصة للرجعة يكون أوضح في معنى العدة ، ويكفي لذلك نحو ثلاثة أشهر ; أما حال الموت ، فإن مرارة الفراق فيها أوضح وأشد ، ومعنى الحداد يغلب فيها معنى براءة الرحم ; ولذلك تجب على المدخول بها وغير المدخول بها ، وإن الشارع قد جعلها لذلك أطول من عدة الطلاق ; وإن الشارع الحكيم قد خفف من حدة ما كانت تعمله النسوة الجاهلية ، فقد كانت المرأة في الجاهلية تغلق على نفسها أضيق مكان في مسكنها وتقضي فيه سنة كاملة ; حدادا على زوجها ، فجاء الإسلام ، وخفف عليها وجعلها أربعة أشهر وعشرا ، ولنذكر لك ما كان في الجاهلية وما كان في الإسلام ، كما روي في صحاح السنة : [ ص: 819 ] فقد روى البخاري ومسلم عن زينب بنت أم مسلمة أنها قالت : " دخلت علي أم حبيبة حين توفي أبو سفيان ( أبوها ) فدعت أم حبيبة بطيب فدهنت منه جارية ، ثم مست بعارضيها ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ، قالت زينب : سمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ) مرتين أو ثلاثا . ثم قال : " إنما هي أربعة أشهر وعشرا ، وقد كانت إحداكن تحد السنة ، ثم ترمي البعرة على رأس الحول ; " قال الراوي قلت لزينب : ما ترمي بالبعرة على رأس الحول ؟ فقالت زينب : " كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بعرة ، فترمي بها ، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره " .

                                                          وترى من هذا أن الإسلام قد ألغى تلك العادات الجاهلية ، وقصر أمد الحداد على الوفاة ، فجعله أربعة أشهر وعشرا بدل سنة .

                                                          وقد يرد سؤال آخر : لماذا حد العدد بأربعة أشهر وعشرا ؟ وإن تقدير الأعداد كما يقرر الفقهاء أمر توقيفي خالص لا يجري فيه القياس ; ولكن ليس معنى ذلك أنه لا حكمة فيه ; وإن الحكمة يقررها العلماء في أمرين :

                                                          أولهما - أن الأشهر الأربعة هي التي يظهر فيها الحمل ويستبين ، وقد جعلت العشر بعدها للاحتياط ، وتعرف أعراضه وظواهره ; وذلك لأنه لما وكل أمر براءة الرحم إلى مدة ، لوحظ فيه المدة التي فيها يعرف ويستبين وتظهر أعراضه .

                                                          [ ص: 820 ] ثانيهما - أن مدة أربعة الأشهر هي المدة التي قررها الشارع أقصى مدة للحرمان من الرجال ، ولذلك جعل الإيلاء مدته أربعة أشهر ، بحيث إذا حلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر ، ومضى في يمينه وانتهت المدة طلقت منه ، فكان من التنسيق بين الأحكام الشرعية أن تجعل مدة الإحداد على الزواج في حدود هذه المدة ، ومقاربة لها في الجملة ، وليس من المعقول أن يعاقب الشارع الرجل إذا أصر على هجر زوجه بالفراق إذا أصر عليه أربعة أشهر ، وفي الوقت نفسه يلزمها بالحداد مدة أطول من ذلك ، بل ينبغي أن تكون مدة الإحداد حول هذه المدة أيضا .

                                                          فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف بينت الجملة السامية السابقة مدة العدة للمتوفى عنهن أزواجهن ، وفي هذه الجملة الكريمة يبين سبحانه وتعالى انتهاءها وما يترتب على الانتهاء ، والمعنى : إذا انتهت المدة المقررة للتربص ، فلا إثم على الناس فيما يفعلن في أنفسهن من زينة واستعداد للزواج والزواج بالفعل ، ونرى في التعبير الفعل المباح منسوبا لهن ، ونفي الإثم عن الناس المتصلين بهؤلاء المتوفى عنهن أزواجهن ، وفي ذلك دلالة على أمرين :

                                                          أحدهما : أن المرأة تباح لها الزينة بالمعروف ، أي بالأمر المعقول الذي تقره العقول ، وتدركه الأفهام ، وتعرفه أهل المدارك السليمة والأذواق الدقيقة المحكومة بشكائم الأخلاق ، ويدخل فيما يفعلن بأنفسهن الزواج ، فلها اختيار الزوج ، وتولي العقد ، بشرط أن يكون ذلك في دائرة العرف والتقيد بالكفاءة ، وألا تجلب عارا على أسرتها وذويها .

                                                          وثانيهما : أن نفي الإثم عن الجماعة فيما يفعلن بأنفسهن بالمعروف غير المستنكر ، دليل على أن الجماعة الإسلامية متعاونة متآزرة متماسكة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن على كل امرئ أن يصلح من شأن أخيه ، ويقومه بالمعروف ، ويبين له أوامر الشرع وحكم الله تعالى ، ولا تذهب عنه هذه المسؤولية حتى يكون عمل من يكون ذا صلة به في دائرة الشرع والخلق القويم .

                                                          [ ص: 821 ] وقبل أن نترك الكلام في عدة المتوفى عنها زوجها ، نشير إلى موضوع يتصل به ، أو هو من لبه ، وهو مقدار شمول هذا النص للمعتدات من وفاة : أيشمل الحامل وغير الحامل ، أم يختص بغير الحامل فقط ; لقد ورد فيعدة الحامل قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وورد في عدة الوفاة هذه الآية الكريمة التي نتكلم في معناها ، وهذان عمومان متعارضان ، أو يبدو في الظاهر أنهما متعارضان .

                                                          وقد قال جمهور الفقهاء : إن آية عدة الوفاة التي نتكلم فيها خاصة بغير الحوامل ، فعدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل تكون بأربعة أشهر وعشرا ، وعدة الحامل بوضع الحمل عملا بآية الحمل ، فكانت آية الحمل شاملة لحال الطلاق وحال الوفاة ; ويستدل على ذلك الرأي ، بالحديث الشريف ; فإنه روى أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أفتى سبيعة الأسلمية ، بأنها حلت حين وضع حملها ، وكانت قد ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر .

                                                          هذا رأي جمهور الفقهاء ، وذلك نظرهم ; ولكن يروى عن علي ، وابن عباس رضي الله عنهما أن المعتدة الحامل من وفاة تعتد بوضع الحمل ، بشرط ألا تقل العدة عن أربعة أشهر وعشر ; أي أنها تعتد بأبعد الأجلين : وضع الحمل ، أو مضي أربعة أشهر وعشر .

                                                          وذلك الرأي إعمالا للآيتين الكريمتين وإمضاء لعمومهما ، وهو يتفق مع الحكمة من إطالة مدة العدة بالنسبة للمتوفى عنها زوجها ; فإنه لا يتفق مع ذلك أن تنتهي العدة بوضع الحمل بعد ساعة من الوفاة .

                                                          والله بما تعملون خبير ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذا التذييل ; لبيان أنه سبحانه وتعالى عليم علم الخبير الدقيق الذي لا تخفى عليه خافية ، بما يعملون من تنفيذهم لأوامره ، أو إهمالهم ; وأن من سنته سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أنه بعد كل أمر أو نهي يذكر رقابته سبحانه وتعالى في التنفيذ ، ليعلم من [ ص: 822 ] يهمل ومن يطيع ، ولكل جزاؤه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ; وإذا كان المكلف يحس بأنه تحت رقابة الله دائما فإنه يراقب الله في عمله ، ويكون منه الخير واجتناب الشر .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية