الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم أنذر الله تعالى أولئك الخائنين بالفعل ما سيحل بهم فقال : ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ( يحسبن ) بالمثناة التحتية والباقون بالفوقية ، وهذه القراءة أظهر ، ومعناها : ولا تحسبن أيها الرسول أن هؤلاء الذين كفروا قد سبقوا بخيانتهم لك ، ونقضهم لعهدك بالسر مرة بعد مرة بأن أفلتوا من عقابنا متحصنين بعهدهم الذي يمنعك من قتالهم ومثله قوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ( 29 : 4 ) - وأما القراءة الأولى فمعناها : ولا يحسبن حاسب أو أحد أن الذين كفروا قد سبقوا بما ذكر من نقضهم للعهد ، ومظاهرتهم لأهل الشرك في الحرب - أو لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقونا ، ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم ، وقد علل هذا النهي بقوله عز وعلا : إنهم لا يعجزون قرأه الجمهور بكسر " إن " على الاستئناف وابن عامر بفتحها بتقدير " لأنهم " وحذف لام التعليل مطرد في مثل هذا . والمعنى : أنهم لا يعجزون الله تعالى بمكرهم وخيانتهم لرسوله بمساعدة المشركين عليه ، بل هو سيجزيهم ويسلط رسوله والمؤمنين عليهم ، فيذيقونهم عاقبة كيدهم . وهذا كما قال في نبذ عهود المشركين في أول سورة ( براءة ) واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ( 9 : 2 ) فهو قد أعلم رسوله بخيانتهم ، وأذن لهم بنبذ عهدهم ، ليحل له مناجزتهم القتال جزاء على مساعدتهم لأعدائه عليه وإغرائهم بقتاله .

                          وفي هذه الآية دليل على أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع المحالفين من أعدائه المخالفين له في الدين : وما حرمه من الخيانة لهم فيها ، وما شرعه من العدل والصراحة في معاملتهم - ليس عن ضعف ولا عن عجز ، بل عن قوة وتأييد إلهي ، وقد نصر الله تعالى المسلمين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم ، وثبت بهذا أن قتال المسلمين لهم وإجلاءهم لبقية السيف منهم من جوار عاصمة الإسلام ثم من مهده ومعقله ( الحجاز ) كان عدلا وحقا . ( فصول في المعاملة بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويهود المدينة في السلم والحرب )

                          نختم تفسير هذه الآيات بما شرحه المحقق ابن القيم لهذه المسألة في كتاب الهدي النبوي إتماما لما فسرنا به الآيات ، وإثباتا له بالوقائع والبينات ، قال رحمه الله تعالى : [ ص: 47 ] ( فصل ) ولما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ، ولا يظاهروا عليه ، ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم ، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة ، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ، ولم يحاربوه بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه ، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره ، وانتصاره في الباطن ، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم ، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ، ليأمن الفريقين ، وهؤلاء المنافقون : فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى .

                          فصالح يهود المدينة ، وكتب بينهم وبينه كتاب أمن ، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر ، وشرقوا بوقعة بدر وأظهروا البغي والحسد ، فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره ، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين ، وكانوا أشجع يهود المدينة ، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب ، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة ، وهم أول من حارب من اليهود ، وتحصنوا في حصونهم ، فحاصرهم أشد الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم ، وقذفه في قلوبهم ، فنزلوا على حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا ، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وألح عليه فوهبهم له ، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، ولا يجاوروه بها ، فخرجوا إلى أذرعات الشام فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم ، وكانوا صاغة وتجارا ، وكانوا نحو الستمائة مقاتل ، وكانت دارهم في طرف المدينة ، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم ، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية