الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إنا عرضنا الأمانة ) لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول ، ورتب على الطاعة ما رتب ، بين أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم ، فقال : ( إنا عرضنا الأمانة ) تعظيما لأمر التكليف . والأمانة : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا . والشرع كله أمانة ، وهذا قول الجمهور ، ولذلك قال أبي بن كعب : من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها . وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، والظاهر عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظام ، وهي الأوامر والنواهي ، فتثاب إن أحسنت ، وتعاقب إن أساءت ، فأبت وأشفقت ، ويكون ذلك بإدراك خلقة الله فيها ، وهذا غير مستحيل ، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام ، وحن الجذع إليه ، وكلمته الذراع ، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة .

قال ابن عباس : أعطيت الجمادات فهما وتمييزا ، فخيرت في الحمل ، وذكر الجبال مع أنها مع الأرض ، لزيادة قوتها وصلابتها ، تعظيما للأمر . وقال ابن الأنباري : عرضت بمسمع من آدم ، عليه الصلاة والسلام ، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه ، فيتجاسر على الحمل غيره ، ويظهر فضله على الخلائق ، حرصا على العبودية ، وتشريفا على البرية بعلو الهمة . وقيل : هو مجاز ، فقيل : من مجاز الحذف ، أي على من فيها من الملائكة ، وقيل : من باب التمثيل .

قال الزمخشري : إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به ، فأبى محمله والاستقلال به ، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته . ( إنه كان ظلوما جهولا ) ، حيث حمل الأمانة ، ثم لم يف بها . ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم . من ذلك قول العرب : لو قيل للشحم أين تذهب لقيل : أسوي العوج . وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات ، وتصور مقالة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصور أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها .

فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلا وتؤخر [ ص: 254 ] أخرى ; لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين ، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه ، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه ، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، فليس كذلك ما في الآية . فإن عرض الأمانة على الجماد ، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم ، فكيف صح بها التمثيل على المحال ؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا ، والمشبه به غير معقول . قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب ؟ وفي نظائره مفروض ، والمفروض أن يتخيل في الذهن كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض ، لو عرضت على السماوات والأرض والجبال ( فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) . انتهى .

وقال أيضا : إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها ، وهو ما تأتي من الجمادات ، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة . كما قال : ( قالتا أتينا طائعين ) . وأما الإنسان فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان صالح للتكليف ، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد . والمراد بالأمانة : الطاعة ; لأنها لازمة للوجود . كما أن الأمانة لازمة للأداء ، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز . وحمل الأمانة من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها ; لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها ، وهو حامل لها . ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ؟ ولي عليه حق ؟ فأبين أن لا يؤدونها ، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملا لها لا يؤديها . ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها . انتهى ، وفيه بعض حذف .

وقال قوم : الآية من المجاز ، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأيتهما أنهما لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبتها وأشفقت عنها فعبر عن هذا المعنى بقوله : ( إنا عرضنا ) الآية ، وهذا كما تقول : " عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل ، فرأيتها تقصر عنه ، ونحوه قول ابن بحر " معنى ( عرضنا ) : عارضناها وقابلناها بها . ( فأبين أن يحملنها ) : أي قصرن ونقصن عنها ، كما تقول : أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها . ( وحملها الإنسان ) قال ابن عباس وابن جبير : التزم القيام بحقها ، والإنسان آدم ، وهو في ذلك ظلوم نفسه جهول بقدر ما دخل فيه . وقال ابن عباس : ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة . وقال الضحاك والحسن : وحملها معناه خان فيها ، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره . وقال ابن مسعود ، وابن عباس أيضا : ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده ، وكان آدم مسافرا عنهم إلى مكة ، في حديث طويل ذكره الطبري . وقال ابن إسحاق : عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات . والحمل : الخيانة ، كما تقول : حمل خفي واحتمله أي ذهب به . قال الشاعر :

إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

انتهى .

وليس وتحمل أخرى نصا في الذهاب بها ، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى ، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى ، فلا تزال دائما ذا أمانات ، فتخرج إذ ذاك .

واللام في ( ليعذب ) لام الصيرورة ; لأنه لم يحملها لأن يعذب ، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك ، ويتوب على من آمن . وقال الزمخشري : لام التعليل على طريق المجاز ; لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب ، كما أن التأديب في : ضربته للتأديب نتيجة الضرب . وقرأ الأعمش : " فيتوب " يعني بالرفع ، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدئ ويتوب . ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم [ ص: 255 ] يحملها ; لأنه إذا ثبت على أن الواو في ( وكان ) ذلك نوعان من عذاب القتال . انتهى . وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ " ويتوب " بالرفع .

التالي السابق


الخدمات العلمية