الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

أسباب ورود الحديث (تحليل وتأسيس)

الدكتور / محمد رأفت سعيد

تقديم

بقلم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي اختص الأمة المسلمة بالرسالة الخاتمة، وناط بها حملها، ونقلها، وحراستها، والدعوة إليها، وجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وربط استمرار الخيرية والتمكين بحمل الأمانة، والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، وفق منهج الله في الكتاب والسنة، الذين يشكلان المعيار المعصوم، ومركز الرؤية، ودليل العمل، والتعامل مع الحياة والأحياء. هـذا المعيار -أو هـذه المعيارية- تعتبر من أخص خصائص الرسالة السماوية الخاتمة، حتى لا يداخلها أي شك، أو احتمال تحريف أو تبديل، فالقرآن معيار؛

يقول تعالى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48) ،

فالهيمنة هـنا تعني فيما تعني: المعيارية، والتصويب، والرقابة لما داخل الكتب السماوية السابقة؛ من التحريف، والتبديل، والإخفاء، والإلغاء، والنسيان.

فالقرآن الخالد بهذا يصوب التاريخ، ويصوب الحاضر، ويصوب التوجه نحو المستقبل.

والرسول صلى الله عليه وسلم بسنته، وسيرته، وبيانه للقرآن، وتجسيده له في [ ص: 7 ] الواقع معيار أيضا، يقول تعالى: ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ) (الأحزاب:45) ،

ويقول: ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) ،

والشهادة تعني: بيان الحق، وإدانة الباطل، وكشف الزيف.

والأمة المسلمة بما تمتلك وتجسد في حياتها من قيم الكتاب والسنة هـي أمة معيارية أيضا، يقول تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) .

فالشهادة على الناس، والقيادة لهم، وفق منهج الله في الكتاب والسنة، هـي من أخص خصائص المعيارية. ذلك أن أمة الرسالة الخاتمة يستحيل عليها عقلا وواقعا أن تتواطأ على الخطأ؛ لأنها تمتلك القيم المعيارية المعصومة، ويمثلها ويجسدها باستمرار ظهور الطائفة القائمة على الحق؛ التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، الأمر الذي يقتضي عصمة عموم الأمة، التي يشير إليها ( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : لا تجتمع أمتي على خطأ ) ، وفي رواية: ( ما كان الله ليجمع هـذه الأمة على ضلالة أبدا. ) رواه الحاكم .

لأن من لوازم الرسالة الخاتمة، أو من لوازم الخاتمية، وتوقف النبوات، والتصويب: استمرار القيم في الكتاب والسنة صحيحة سليمة من كل تحريف، أو تبديل، أو تأويل؛ ليصبح التكليف صحيحا عقلا وشرعا، ويترتب الثواب والعقاب. ومن لوازمها [ ص: 8 ] أيضا الخلود، الذي يعني: استمرار تجسد هـذه القيم في الواقع، وقدرتها على إنتاج نماذج تثير الاقتداء، وتظهر بالحق في كل زمان ومكان، وتمتلك الإمكانية لمعالجة المشكلات الطارئة، والتعامل مع المتغيرات، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولعل من مقتضيات الخاتمية أيضا تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ القيم في الكتاب والسنة من أي تحريف أو تبديل؛ سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه، أو تحريفه بالتأويل، وهو الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، قال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) ،

وقال: ( إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:17-19) ،

فالتكفل بالحفظ للنص الإلهي، والحفظ والحراسة لبيانه عن طريق النبوة، يعتبر من أبرز سمات الرسالة الخاتمة، وأخص خصائصها.

والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، المبين للناس ما نزل إليهم، يقول تعالى في بيان مهمته: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحل:44) ،

فجاء حفظ السنة والبيان النبوي، والعناية بهما ثمرة لازمة لحفظ القرآن. وامتازت الأمة المسلمة عن غيرها من الأمم السابقة واللاحقة بالرواية والإسناد، تلك الوسيلة التي لا بد منها لحفظ القيم، والقيام بمهمة البلاغ المبين، والتوصيل، والنقل الثقافي، على الوجه الصحيح، التي اعتبرها الله سبحانه وتعالى سبيل النجاة، بقوله: [ ص: 9 ] ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ) (الجن:23،22) ، وأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقوله: ( ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هـو أوعى له منه. ) (رواه البخاري ) ، وقال: ( فرب مبلغ أوعى من سامع ) (رواه الترمذي وأحمد ) ، وبذلك لم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على أهمية النقل (الرواية) ، وإنما نبه أيضا إلى فقه الرواية ووعيها (الدراية) ، وبهذا استحق المسلمون وراثة القيادة الدينية، بعد نقض بني إسرائيل للميثاق، وتحريفهم للقيم السماوية.

وبعد:

فهذا كتاب الأمة السابع والثلاثون: (أسباب ورود الحديث، تحليل وتأسيس) : للدكتور محمد رأفت سعيد ، في سلسلة: كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر؛ مساهمة في بناء شخصية المسلم المعاصر، وتقويم سلوكه، وضبط حركته بالقيم الإسلامية، الأمر الذي لا يتأتى إلا بإعادة بناء المرجعية، وتشكيل مركز الرؤية، التي تحققها معرفة الوحي في الكتاب والسنة، وتنطلق منها، وتمتد بها معارف العقل؛ ليستأنف المسلم دوره، ويستعيد فاعليته لحمل الأمانة، التي كلفه الله بها، وتحقيق العبودية لله، وإلحاق الرحمة بالناس أجمعين، وإبصار طريق العمران البشري، الذي ينسجم مع نسقه الحضاري، ومعادلته الاجتماعية في ضوء قيمه، واستصحاب تطبيقها في الواقع، من خلال تحديد موقعه بدقة في [ ص: 10 ] المسيرة التاريخية للأمة المسلمة، بعيدا عن الأنماط والقيم الاستعمارية لحضارة الغالب، المفروضة عليه.

وقد تكون المعادلة الصعبة المطروحة بإلحاح على مسلم اليوم، والتي يطلب إليه الإحاطة بعلمها؛ ليكتشف الخلل، ويبصر سبيل الخروج هـي في انتمائه لماض متألق، على الأصعدة المتعددة، ومعايشته لواقع متخلف، يعاني منه على مختلف الأصعدة أيضا، على الرغم من أن أمته المسلمة صاحبة الرسالة الخاتمة الخالدة، وأنها تمتلك الخطاب الإلهي السليم، الذي يصوب طريقها، ويمنحها الطاقات الفاعلة، والقيم الروحية، والتجربة الحضارية التاريخية، كما تمتلك الإمكانات، والطاقات المادية الهائلة، المركوزة في بلادها، والتي يمكن -لو أحسن توظيفها- أن تقود حركة العالم، وتعين وجهته، وتسترد إنسانية إنسانه وفقا لمنهج الله.

وإذ حق لنا أن نقول: بأن الحاضر هـو مستقبل الماضي، أدركنا أن واقعنا وحاضرنا جاء ثمرة لأصول حضارية، ومذهبيات وفلسفات عقائدية، بعيدة عن قيمنا، وتاريخنا، ونسقنا الحضاري؛ وأن فجوة التخلف التي نعاني منها، أو المعادلة الصعبة التي نعيشها إنما هـي بسبب انسلاخنا عن قيمنا في الكتاب والسنة، وليس بسبب التزامنا بها، وبسبب أننا نعاير واقعنا وحاضرنا، ونحاول قياسه، وتصويبه، بقيم غريبة عنه، مع أن الأمر المنطقي كان يقتضي في دراستنا لمشاريع النهوض، وإبصار سبل الخروج أن نقيس واقع كل أمة وحاضرها بأصولها وقيمها الحضارية، لا بأصول وقيم حضارية غريبة عنها، [ ص: 11 ] لنكتشف الخلل، ونصوب المعادلة.

وإذا صح لنا- من استقراء التاريخ ودراسة سنن التداول الحضاري- القول: بأن نهوض أي مجتمع مرهون إلى حد كبير بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول. أدركنا في ضوء ذلك قولة الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا يصلح آخر هـذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وأدركنا الأبعاد الكاملة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام أبو داود في الملاحم: ( يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. ) هـذا التجديد، الذي يعني فيما يعني العودة إلى الأصول، والينابيع الأولى، ومحاولة إزالة الغبش، واستئصال نابتة السوء والابتداع، وتحكم بعض التقاليد الاجتماعية، واختلاطها بالتعاليم الشرعية، واستلهام التطبيق في المجتمع الأول القدوة، واستدعاء المناخ التربوي والنفسي والثقافي لظروف وشروط الميلاد الأول، الذي يمكن من التجديد والانبعاث وإعادة النهوض.

ومن هـنا يتأكد لنا أيضا وفي كل الظروف والأحوال أهمية العودة باستمرار إلى دراسة الكتاب والسنة كقيم معيارية، ودراسة السيرة النبوية كأنموذج بياني تطبيقي؛ لتنزيل هـذه القيم على الواقع، والأخذ بيده للارتقاء، وتقويم سلوكه بها، والتبصر بأسباب النزول للقرآن، والورود للحديث؛ كوسائل إيضاح معينة على فهم آليات التطبيق والتنزيل للقيم على الواقع، وكيفيات التعامل معها، من خلال الاستطاعات المتاحة، والظروف المحيطة. [ ص: 12 ]

ولعل من الأمور الأساسية التي لا بد من مداومة التأكيد عليها، وتكرار القول فيها: أن من لوازم الخاتمية وتوقف النبوة سلامة خطاب التكليف من التحريف، والتبديل، والانتحال، والغلو، والتأويل؛ حتى يكون التكليف صحيحا، ويترتب عليه الثواب والعقاب -كما أسلفنا- ويتحقق العدل الإلهي.

وأن من لوازم الخاتمية أيضا الخلود، وتجرد النص الإلهي في الكتاب والسنة عن حدود الزمان والمكان، وأسباب النزول والورود؛ لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب ، كما هـو مقرر عند علماء الأصول، فالخلود يعني: القدرة على العطاء، والامتداد، وتوليد الأحكام، والبرامج، والاستجابة لمعالجة المشكلات، ومواجهة المتغيرات في كل زمان ومكان، والقدرة على إنتاج النماذج التي تظهر بالحق، وتثير الاقتداء في كل زمان ومكان أيضا.

وقد يكون من أخطر الإشكالات والإصابات التي لحقت بالنص السماوي السابق هـي في عملية تحريف الكلم عن مواضعه. والتحريف كما هـو معلوم قد يكون بتبديل الألفاظ؛ ليتغير المعنى والتكليف المطلوب، تبعا لذلك، أو تغييب وإخفاء بعض ما أنزل الله، وإبراز الآخر؛ لكي يتوافق مع الرغبات والأهواء، ويحقق المصالح الموهومة في الدنيا. هـذا التقطيع للرؤية الشاملة، التي يمنحها النص الإلهي، أو هـذا الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض هـو سبب الخزي الذي لحق بأهل الكتاب، والذي اعتبر من علل التدين، وأسباب الانقراض، التي حذر المسلمون من الوقوع فيها، [ ص: 13 ] يقول تعالى: ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ) (المائدة:13) .

وذاك اللون من التحريف الذي وقع به أهل الكتاب يتناسب مع شيوع العامية، وانعدام وسائل الكتابة، والقراءة، جاء ليمثل مرحلة من مراحل التحريف. ويكاد هـذا أن يكون مستحيلا بالنسبة للمسلمين؛ لأن الله تكفل بحفظ النص السماوي، وتكفل بحفظ بيانه أيضا، كما هـو معلوم، ولشيوع الكتابة والقراءة والحفظ، التي بدأت منها الخطوات الأولى للرسالة الإسلامية.

وقد تكون المشكلة بالنسبة للمسلمين، أو احتمالات التحريف، هـي: الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، لذلك كان من الأهمية بمكان -إلى جانب حفظ النص الإلهي الذي تعهد الله بحفظه وقراءته- حفظ السنة، والتعهد بحفظ البيان النبوي أيضا: ( ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:19) ،

الذي يحول دون التحريف، أو التأويل، الذي يعني عدم مس ألفاظ وحروف النص، بمقدار ما يعني الخروج بالمعنى تأويلا عما وضع له اللفظ.

فالسنة والسيرة هـما البيان العملي، الذي يحول دون التأويل المنحرف، والذي يمنح ملكة فقه التنزيل للنص على الواقع، لذلك فالاجتهاد يعني: تجريد النص من قيد الزمان والمكان والمناسبة -سبب النزول وسبب الورود- والامتداد به، وتعدية الرؤية، وامتلاك [ ص: 14 ] القدرة في التنزيل على الواقع، بواسطة العقل القائس. نقول: بأن العقل الذي أطلقه الإسلام لتحقيق خلود النص بالاجتهاد ، وفسح أمامه آفاقا رحبة للامتداد به، له أن يمتد، ويمتد، ويلمح آفاقا بعيدة، ويولد أحكاما ورؤى، ويضع من البرامج في ضوء قيم ومقاصد النص الإلهي ما شاء الله له الامتداد؛ ليحقق الاستجابة لكل جديد ومتغير. لكن لا يجوز للعقل، أو الاجتهاد، والتفسير بالرأي بحال من الأحوال أن يخرج أو يغير أو يلغي الإطار العام للتفسير بالمأثور، أو البيان النبوي، وإلا كان الخروج والتأويل الفاسد وتحريف الكلم عن مواضعه.

لذلك يمكن أن نقول: إن البيان النبوي، أو التفسير بالمأثور، (الذي يشكل سبب النزول والورود وسيلته المعينة) يشكل الإطار المرجعي، والضابط المنهجي، والنسق المعرفي لأي بيان أو استنباط، أو تفسير بالرأي للنص، كما يعتبر من عواصم العقل من التجاوز، والانحراف، والإلغاء، والقطيعة، أو التقطيع للنص. فللمجتهد أن يكتشف آفاقا وأبعادا لمقاصد النص، ومراميه، في ضوء الظروف المستجدة، لكن ليس له أن يتجاوز البيان النبوي، أو يخرج عليه باسم التفسير أو التأويل، الذي يقود إذا ما تجاوز المأثور إلى التحريف في المقاصد، والانحراف في السلوك.

وقد يكون -ولأمر يريده الله- انقطاع استمرار الرشد الكامل بعد جيل القدوة، الذي أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، بقوله: ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا [ ص: 15 ] بها، وعضوا عليها بالنواجذ ) رواه أحمد ؛ ليبقى هـذا الجيل وحده هـو محل الاقتداء والتأسي، ولا تحسب الممارسات التاريخية للأفراد والحكام على الإسلام؛ وذلك حتى لا يصبح التاريخ أو الأشخاص هـم المعيار.

لذلك كان التفسير بالمأثور، أو فقه التنزيل على الواقع في السنة والسيرة، وفهم خير القرون هـو المأمن والعاصم من التأويل الباطني، أو الإشاري، أو العرفاني، الذي يخرج عن كل الضوابط المنهجية ويعتمد التذوق الذاتي، وبذلك يصير لكل إنسان كتاب وسنة.

ولعل مفرق الطريق، أو نقطة الانطلاق للتفسير العرفاني الصوفي والباطني غير المنضبط تبدأ من توهين إسناد السنة، أو البيان النبوي.

ونحن بسبيل الكلام عن التفسير بالمأثور، وأهمية اعتماده كإطار مرجعي في النظر العقلي والتفسير بالرأي. لا بد أن نذكر أن الكثير من أصحاب التفسير الباطني، والصوفي، والإشاري، أو بكلمة مختصرة: التفسير العرفاني، حاولوا توهين إسناد ومتون بعض الأحاديث المبينة للقرآن، ليكون ذلك مندوحة لهم، للخروج، والرفض، والتجاوز، وإذا لم يجدوا في إسنادها ومتونها وهنا ردوها على أنها من خبر الآحاد ، الذي يفيد الظن، ولا يحقق علم اليقين. مع أن المعتمد عند جميع العلماء أن أحاديث الآحاد وأخبار الآحاد يؤخذ بها في أحكام الفروع، وفي بيان آيات [ ص: 16 ] القرآن؛ أي في التفسير بالمأثور، حتى في مجال بيان آيات العقائد، عند من لم يعتمدها في إثبات العقائد. وقد يكون الأمر المستغرب حقا أن تلغى أحاديث الآحاد ؛ لأنها تفيد الظن -وقد توفر لها صحة النقل، بشروطه المعروفة عن المعصوم- باجتهاد لا يخرج عن نطاق الظن، من شخص لا عصمة له؛ أي يرد الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم -لأن سند نقله، لا يفيد اليقين- باجتهاد ونظر عقلي، ممن يجري عليه الخطأ والصواب -بأصل الخلق- حيث الأصل في اجتهاده الظن، وعدم اليقين.

وأسباب النزول والورود -وهي من البيان النبوي- هـي أشبه ما تكون بوسائل إيضاح، لتنزيل النص على الواقع، ولتكون أداة معينة على التنزيل في كل زمان ومكان. لكن هـذه الوسائل من أسباب النزول والورود، لا تعتبر قيودا للنص، تجمده في نطاق المناسبة، بمقدار ما تمنح من فقه للتنزيل على الواقع، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب - كما أسلفنا- ذلك أن أسباب النزول والورود، أو البيان النبوي، هـو أشبه بالتجربة المخبرية في العلوم التجريبية ، التي تعتبر الأساس للانطلاق منها، والتصنيع في ضوئها، واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتعددة، داخل المجتمع، التي تعتمد جميعها تلك التجربة المخبرية، ولا تخرج عليها.

وقد يكون من المفيد، أن نتوقف قليلا، عند قضية فقه التنزيل، التي يمكن أن نعبر عنها: بالاجتهاد في مورد النص..والاجتهاد في مورد النص الذي نعنيه، أمر آخر غير الاجتهاد المرفوض، حيث [ ص: 17 ] لا اجتهاد مع النص ، على خلاف ما هـو شائع من أنه لا اجتهاد في مورد النص، خاصة إذا اعتبرنا أن مورد النص، هـو محله، وأن هـذا المحل، لا بد أن تتوفر فيه استطاعات معينة، ليصبح أهلا ومحلا لتنزيل الحكم - النص - عليه، ذلك أن فقه المحل، يعتبر من الأهمية بمكان، إلى جانب فقه النص، أو حفظ النص.. فحفظ النص، أو حمله، أو فقه حكمه، يمثل نصف المطلوب، أو نصف الحقيقة، ويبقى النصف الآخر، وهو فقه المحل، أو الاجتهاد في معرفة استطاعة المحل، ومدى إمكانية حصول التكليف، وتنزيل النص عليه، وهي قضية على غاية الأهمية، لو تأملنا في الفقه النبوي، وفقه خير القرون، لوجدنا أنها مدار ومدى التكليف كله، وقد تنبه لأهميتها بعض علمائنا بشكل خاص.. وقد يكون من المفيد استدعاء بعض ما قدموه إلى ساحة الاهتمام المعاصر: يقول الإمام الشاطبي رحمه الله (المتوفى عام 790هـ) : ليس كل ما يعلم مما هـو حق، يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علما بالأحكام، بل ذلك ينقسم: منه ما هـو مطلوب النشر، وهو غالب على الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص.

ويضيف موضحا، ومفصلا، ومنبها إلى المنهج العلمي، في التعامل مع أحكام الشرع، وتوجيهاته، وقضايا الأفراد والمجتمع، فيقول: [ ص: 18 ]

"ليس كل علم يبث وينشر، وإن كان حقا، وقد أخبر مالك عن نفسه، أنه عنده أحاديث، وعلما، ما تكلم فيها، ولا حدث بها، وكان يكره الكلام، فيما ليس تحته عمل، فتنبه لهذا ... وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر مآلها، بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم، إن كانت مما تقبلها العقول، وإما على الخصوص، إن كانت غير لائقة بالعموم.. وإن لم يكن لمسألتك هـذا المساغ، فالسكوت عنها هـو الجاري، وفق المصلحة الشرعية والعقلية" (الموافقات 4 / 189 -190) .

فالأمر لا يتعلق فقط بمعرفة الحكم، وما يطلبه الشرع منا، والتأكد منه، والانطلاق لإنجازه، بل يتعلق أيضا، باستكمال أبعاد أخرى تخص المحل ومساحة التنفيذ، والتنزيل على الواقع وكيفياته، ومنهجية ومرحلية الإنجاز، خصوصا في مراحل انتقاص آثار النبوة في الخلق، وضعف صلة الناس بالإسلام فهما وممارسة، حيث يحتاج الاجتهاد إلى بصيرة نافذة، وعقل راشد، وفقه نضيج، يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة، التي يفرزها التدافع بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والمصلحة والمفسدة، وهو ما عناه الفقهاء بقولهم: "ليس الفقيه هـو من يعرف: بأن هـذا مصلحة وهذا مفسدة، بل الفقيه هـو الذي يعرف: خير الخيرين، وشر الشرين".

فالعالم كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله (661-728 هـ) : [ ص: 19 ] "تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت، عن الأمر والنهي، أو الإحاطة.. كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر، عن الأمر بأشياء، حتى علا الإسلام وظهر.

فالعالم، في البلاغ والبيان كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء، إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات، وبيان أحكام، إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها.

فالمحيي للدين، والمجدد للسنة، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه، والعمل به، كما أن الداخل في الاسلام، لا يمكن حين دخوله، أن يلقن جميع شرائعه، ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن أول الأمر، أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإن لم يطقه، لم يكن واجبا عليه في هـذه الحال، وإذا لم يكن واجبا، لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه عليه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي، بما لا يمكن علمه وعمله، إلى وقت الإمكان، كما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما عفا عنه، إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات، وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل.. ومن هـنا يتبين سقوط كثير من هـذه الأشياء، وإن كانت واجبة، أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ، الذي تقوم به حجة الله، في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان في الأصل" (مجموعة الفتاوى 20 / 58 -60) . [ ص: 20 ]

وقد تكون الحكمة من أن القرآن، جاء ترتيب آياته وسوره توقيفيا من الله، ولم يرتب بحسب تاريخ وأسباب النزول - والله أعلم - إنما هـي لتحقيق الخلود، وتحرير النص الإلهي الخاتم، من قيد الزمان والمكان والمناسبة، وتقديم الرؤية الشاملة، التي تصلح لكل الأحوال، والأزمان، والأماكن، والمتغيرات، وبذلك يمكن تنزيل أحكامه على الواقع، في ضوء استطاعاته وظروفه، دون التجمد على حال واحدة، بحيث يصبح الاجتهاد المطلوب: أين يكون موقع الحاضر - من خلال ظروفه، واستطاعاته - من الرؤية الشاملة؟ وما هـي الأحكام التي تناسبه في هـذه المرحلة، في إطار هـذه الرؤية؟

لذلك فقد يكون فقه المحل، وما يتنزل عليه من الأحكام، بحسب استطاعته، من أهم الأمور المطلوبة للفقيه المسلم اليوم، ذلك أن الكثير من النصوص في الكتاب والسنة، أحاطت بها ظروف، وشروط، ومناسبات، لا بد من إدراكها أثناء عملية التنزيل للنص على الواقع. ولعلي أعتبر سبب النزول، وسبب الورود، نوعا من فقه المحل، وإعانة للمجتهد على إدراك وأهمية توفر الشروط والظروف نفسها للتنزيل.

فعندما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي - إذا لم نعلم السبب - قد نقع في مشكلة تأبيد التحريم، في الأحوال كلها، بينما لو علمنا سبب الورود، ندرك أن التحريم كان بسبب طروء الفقر: "للدافة"، ثم لما انتهت الحال التي عليها الناس، عاد الحل، [ ص: 21 ] وسمح بالأكل والادخار بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما نهيتكم - أي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث - من أجل الدافة التي دفت، فكلوا، وادخرو، وتصدقوا ) رواه مسلم ، وقوله: ( كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام -أي العام الذي نهى فيه عن الادخار- كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها ) رواه البخاري .

إن هـذا الفهم للمحل واستطاعته، وظروفه، الذي يمنحه لنا فقه سبب النزول والورود، يدفعنا قبل تنزيل الأحكام على الواقع، إلى فهم ظروف وشروط الواقع، وهذا هـو الاجتهاد المطلوب في مورد النص، ومعرفة مدى استطاعته، وحدود تكليفه.

والقضية التي لا بد أن نعرض لها أيضا، هـي: أننا أثناء التنزيل للنص على الواقع، الذي قد يقتضينا: الاستثناء، أو التأجيل، أو التدرج في الحكم، فإن ذلك لا يعني أن هـذه الحال التي عليها المحل، هـي الصورة النهائية، أو المرحلة النهائية للحكم الشرعي، وإنما يعني مرحلة في طريق الترقي، وتحضير المحل، ليكون أهلا للحكم النهائي.. والمشكلة كل المشكلة - في نظري - قد تكون في هـذا الفقه الغائب، الذي هـو فقه التنزيل الذي يمنحه (سبب النزول والورود) ، ذلك أن الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة، شاملة لجميع الأحوال والظروف، التي يكون عليها الناس، حتى يرث الله الأرض، ومن عليها، لكن تبقى المشكلة المطروحة هـي: الفقه بكل حالة، وما يناسبها من الأحكام، في هـذه المرحلة، وتحضيرها لما بعدها من المراحل، في طريق التدرج والترقي للوصول إلى [ ص: 22 ] الكمال.

فالأحكام الشرعية، أشبه ما تكون بالأدوية المتوفرة، لكل الأدواء الممكنة الوقوع، والحالات التي قد يكون عليها المريض، لكن تبقى المشكلة، أو الفقه المطلوب والغائب، هـو: أي دواء من الأدوية يحتاج إليها الحال، والمرض الذي نعاني منه؟

إن الغفلة عن إدراك أبعاد سبب النزول والورود أصاب عملية الاجتهاد والتجديد، أو فقه التنزيل في مقاتل، وجعل الكثير من الاجتهادات، هـي أقرب للتجريدات النظرية، منها إلى البصارة والفقه العملي الميداني، وجعلنا ننزل النص، أو الحكم الشرعي، على غير محله، وتوهمنا أن كل حكم، يصلح لكل الأحوال، أو أنه ينزل بإطلاق، دون مراعاة الشروط والظروف وملابسات الحال، حتى أصبحنا نوقع النسخ في غير موقعه، وننزل أحكام وخطاب الحرب والمعركة على ساحات السلم، والدعوة، والبلاغ، ونعطل الكثير من الأحكام، على اعتبار أنها كانت تمثل حالة كان عليها المجتمع الإسلامي الأول، في مراحل تحويله إلى الإسلام، ثم تجاوزها إلى ما فوقها، فأصبحت منسوخة أو معطلة، دون أن ندري أن خلود القرآن والسنة، يعني خلود المشكلات التي عرضا لها، والحلول التي قدماها، وأن الأمة في تاريخها الطويل، سوف تتعرض لحالات كثيرة من السقوط والنهوض، والهزيمة والنصر، والضعف والقوة، وأن لكل حالة حكمها، وفقهها، وأنه لا يكفي حفظ النصوص، وفهمها، بعيدا عن أسباب نزولها، وورودها، التي تعين على فهم الحال التي [ ص: 23 ] تتنزل عليه.

وبمقدار ما نحتاج إلى تجريد النص من قيود الزمان والمكان، وامتلاك القدرة على تعدية الرؤية إلى الأشباه والنظائر، وقياس المستجد، الذي لا نص فيه، على المشابه الذي فيه نص وحكم، في ضوء مقاصد الدين وكلياته العامة، بمقدار ما نحتاج إلى فقه المحل واستطاعاته، وقدرته، وما يلائمه من النصوص والأحكام.. فالقضية الاجتهادية، ذات أبعاد متعددة، وحالات مختلفة.

وقد تكون المشكلة، أو الإشكالية، التي يعاني منها العقل المسلم، بشكل عام، أو المعادلة الصعبة، التي لا بد من حلها وتصويبها، حتى يستقيم الحال؛ أن الكثير من الذين يفقهون النص يجهلون العصر، وأن جل الذين يفهمون العصر يجهلون فقه النص، وأنه على الرغم من أن خطاب التكليف في الكتاب والسنة، إنما يتنزل من خالق الإنسان، العالم بأحواله وحاجاته الأصلية، التي فطر عليها، فإن فهم العصر، محل تنزيل الحكم، هـو من فقه الحكم أيضا.. ولعلنا نقول: إن فهم أسباب النزول والورود، يشكل مدخلا أو منهجا للفقيه والباحث، لإدراك أهمية فهم العصر، والظروف والملابسات التي تحيط بالحكم الشرعي، وليس فقط فهم أبعاد النص.

إن فهم العصر، لا يتأتى إلا بإدراك السنن والقوانين الاجتماعية، والتمكن من آليات الفهم الاجتماعي، التي لها علومها ومعارفها، والتي لم يمتد بها المسلمون بالأقدار المطلوبة، بحيث أصبح خطابهم [ ص: 24 ] في توصيل الإسلام، وبيان أحكامه إلى الناس، يقتصر على مطالبتهم بما يجب أن يكون، دون معرفة ما هـو كائن، وما يناسبه من الأحكام في هـذه المرحلة، ودون معرفة وسائل وأوعية التحرك بالناس، حتى نصل بهم إلى ما يجب أن يكون.

وما لم تحل هـذه المعادلة في العقل المسلم، فسوف نساهم بشكل سلبي في تحنيط الأحكام، وبعدها عن مواقع التنزيل.

وهنا أمر آخر، قد يكون من المفيد التوقف عنده: فلقد بذل علماؤنا وما يزالون، جهودا فائقة ومتميزة، في مجال استنباط الحكم الشرعي، أو الفقه التشريعي، وكان ميدان اجتهادهم ونظرهم هـو آيات الأحكام، التي لا تزيد عند أكثرهم على خمسمائة آية، وعلى أحاديث الأحكام أيضا، وكان نظرهم في هـذه الآيات والأحاديث، لا يتجاوز بعض مقاصدها وأغراضها في بيان أحكام الحلال والحرام.

ومع تقديرنا لهذا العمل العظيم، وتأكيدنا لأولويته في النظر العقلي، والفقهي، حتى يكون المؤمن على بينة من أمره، فيما يفعل وما يدع، ذلك أن خلاصة الشريعة عند علماء الأصول، تكاد تتلخص في كلمتين: افعل، أو لا تفعل؛ ليطابق سلوك المسلم، منهج الله وهديه. نقول: مع تقديرنا لهذا العمل العظيم، وما اقتضاه من مناهج في أصول الفقه، والحديث، والتفسير، واللغة، فإنه يبقى يشكل بعض مقاصد القرآن والسنة، ويمثل بعض جوانب الرؤية القرآنية والبيان النبوي. [ ص: 25 ]

ولعل السبب في ذلك؛ لعل السبب هـو أن الجيل الأول، أو المجتمع الإسلامي الأول، كان يتمثل عملـيا الرؤية القرآنية الشاملة، في تصوره، وسلوكه، ولم يكن بحاجة إلى الاجتهاد، وتوليد القواعد والمناهج والعلوم في شعب المعرفة المختلفة، أو في الميادين المعرفية الأخرى، الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والتربوية، وما إلى ذلك، كحاجته إلى فقه الحلال والحرام.

وكم كان الإنسان يتمنى أن يتوجه الاجتهاد، وتؤصل مناهجه أيضا، في ميادين الحياة المختلفة، ولا يقتصر على ميدان الفقه التشريعي.. كم كان الإنسان يتمنى أن تتوجه الاجتهادات إلى إنتاج فقه تربوي ، وفقه اجتماعي ، وفقه سياسي ، وفقه اقتصادي ، وفقه أخلاقي. أو بكلمة مختصرة: ( فقه حضاري ) بشكل عام، وأن تكون آيات القرآن والأحاديث كلها محلا للاستنباط والاجتهاد ، وألا يقتصر على بعض المقاصد، أو بعض الآيات والأحاديث.. فبمقدار ما نعتقد أن الفقه التشريعي، يشكل ضرورة وحاجة ودليلا لسلوك الإنسان، بمقدار ما نعتقد أن بناء الإنسان، وتشكيله طبقا للرؤية القرآنية، في التربية، والاجتماع، والسياسة، وتحضيره ليصبح محلا للحكم التشريعي، ضروري أيضا، ذلك أن الاعتناء بتوليد الأحكام التشريعية فقط، بعيدا عن بناء الإنسان، محل الحكم، والامتداد بشعب المعارف المختلفة، قد يفتقد قيمته العملية إذا اقتصرنا عليه.. فلا قيمة للحكم إذا افتقدنا محله، الذي هـو الإنسان.

إن الاهتمام بالحكم التشريعي، المعرفة التشريعية، أو اعتبار أن [ ص: 26 ] القرآن والسنة مصدر للفقه التشريعي فقط، يشكل خللا لا بد من استدراكه، ببذل الجهود لاعتبار القرآن وبيانه الخالد، مصدرا للمعرفة بشكل عام، أو مصدرا لشعب المعرفة جميعا، ذلك أن آيات وأحاديث الأحكام التشريعية، هـي بعض آيات القرآن وبيانه، وأن الأحكام التشريعية هـي بعض مقاصد آيات وأحاديث الأحكام.

إن هـذا التبعيض في التعامل مع آيات القرآن عمليا، وترك بقية آياته ومقاصدها للتبرك، أقول: إن هـذا التبعيض في التعامل، ولا أقول في الإيمان بآيات القرآن كلها، أورثنا الكثير من الخزي، والتخاذل، والتخلف عمليا.

إن مجتمعات الأنبياء، وما كانت تعانيه من أمراض وعلل اجتماعية، وما كان يشيع فيها من مسالك وأخلاق، ومواقف الكبراء وأتباعهم، من دعوة الأنبياء، يعتبر منجما لا ينضب للفقه الاجتماعي ، أو لعلم الاجتماع.. كما أن السنن التي أشار إليها القرآن الكريم، والحديث الشريف، واستشهد لها من تاريخ البشرية على الأرض، وطلب من الإنسان التوغل في التاريخ الإنساني، للتأكد من حتميتها، ونفاذها، وتحدى بترتب عواقبها نفسها، إذا توفرت مقدماتها؛ يعتبر من القوانين الاجتماعية الصارمة، الخالدة في الرؤية القرآنية، وبيانها النبوي، والتي ما تزال معطلة في حياة المسلمين.. ولعل الكثير من الإصابات التي تلحق بنا، إنما هـي بسبب الغفلة عن هـذه السنن الاجتماعية، والنفسية، والمادية، التي ما تزال تعمل عملها فينا، دون أن نلتفت إليها، ونظن أن غاية الاجتهاد، [ ص: 27 ] والتأصيل، والمنهجية، هـي في الوصول إلى الفقه التشريعي، أو الاقتصار على المطالبة بتطبيق الشريعة فقط.

إن الكثير من المخاطر والإصابات الفكرية، أو الغزو الثقافي لأمتنا، إنما جاء بسبب منا، لأننا توقفنا عن الامتداد بالكثير من شعب المعرفة، التي تمنحها الرؤية القرآنية والحديثية، في المجالات الاجتماعية، والسياسية، والنفسية، والتربوية، والأخلاقية، ولم نؤصل لها المناهج والأصول، ونستنبط قوانينها أو نظرياتها من مصدرها في الكتاب والسنة.

إن توقفنا في ذلك، أحدث فراغا مخيفا، سمح بامتداد المناهج والآليات والنظم المعرفية الغربية، وطغيانها على رؤيتنا القرآنية، ومرجعيتنا الإسلامية، ولسوف تستمر هـذه الإصابات، وتمتد، وتتأصل، وتتجذر في مجتمعنا، ما لم نمتلك القدرة على جعل الكتاب والسنة مصدرا للمعرفة بشكل عام، مصدرا للفقه التربوي ، والفقه السياسي ، والفقه الاجتماعي ، والأخلاقي .. إلخ، ونحسن التوجه صوب الإنسان، محل الحكم، بالقدر نفسه، أو يزيد، عن توجهنا إلى تأصيل الحكم واستنباطه.

وقد يكون من البدهيات التي لا بد من إثباتها: أن مدرسة الحديث، أو أهل الأثر والاجتهاد الذي يعتمد البيان النبوي كإطار مرجعي، كانوا وما يزالون، هـم السد العظيم، الذي حال دون تسلل الخرافة بشكل أعم، وتفشي البدع ، وتجاوزات الرأي، وكانوا دائما وراء حركات التصويب، وإعادة الأمة إلى الينابيع الأولى، والوقوف [ ص: 28 ] بالمرصاد لكل دارس، أو باحث، أو عابد، تضل به الطريق، إلى درجة لم يعد أحد معها أن يجرؤ على القول في الدين بدون تحقيق وتثبت.

والحقيقة أن الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء، وهم أوعية النقل ووسائل الحفظ، في حفظ شريعتهم من الكتاب والسنة، بما لم تعن به أمة من قبلهم، حيث حفظوا القرآن، وكتبوه، ورووه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، متواترا آية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، كما حفظوا كل أقوال وأفعال وأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو المبلغ عن ربه، والمبين لشرعه؛ تعتبر مفخرة من مفاخر الحفظ.، والنقل الثقافي.

لكن على الرغم من القيمة العظيمة، التي قدمها علماء مصطلح الحديث لتنقية السنة من الدخيل،وما قام به الباحثون في تحقيقهم للنصوص ونشرهم للمخطوطات، إلا أن هـذه الجهود إذا توقفنا عندها، تبقى تمثل نصف الطريق إلى المطلوب، أو تشكل الوسيلة والمقدمة، التي لا بد من توفيرها، لتبدأ المرحلة الأهم، والتي تشكل المقصد والنتيجة، وهي فقه هـذه النصوص، والإفادة منها، في الإجابة عن أسئلة الحاضر، واستشراف وتشكيل المستقبل، واكتشاف أسباب السقوط والنهوض، وإعادة البناء.

إن حامل الفقه، وناقل الفقه، ليس بالضرورة أن يكون فقيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هـو [ ص: 29 ] أفقه منه ) رواه ابن ماجة - وهو صحيح .. فالحمل، والتوصيل، والنقل الثقافي، لا بد منه، لأنه يشكل المقدمة والأساس، لكن لا قيمة كاملة لهذا الحمل، إذا لم يحقق الفقه، والحل المطلوب لمشكلات الحاضر.

وبعـد:

فالكتاب الذي نقدمه اليوم في إطار السلسلة، قد يتميز بطبيعته التخصصية الدقيقة، التي لم يألفها قارئ السلسلة، حيث كان خطابنا له، أو الموقع الذي اخترناه للسلسلة، مخاطبة المثقف المسلم بشكل عام، وترك شأن الكتب المتخصصة إلى مجالاتها، لكن هـذا - في نظرنا- لا يمنع، بين الفترة والأخرى، من تقديم بعض الكتب التخصصية، التي تشكل لنا نقاط ارتكاز، وتسهم ببناء المرجعية، وتعيد إلى بيان كيفية التلقي عن الينابيع الأولى في الكتاب والسنة، وتفتح نوافذ على العلوم الأصلية، وتمنح الضوابط الضرورية، للحيلولة دون المجازفات، والجنوح الفكري، وتكسب الاطمئنان إلى مواريثنا الفكرية، التي تضمها القيم في الكتاب والسنة، وتحقق لنا التقوى من الزلل والانحراف. [ ص: 30 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية