الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 276 ] وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم، من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق: هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا؟

وهل هي موافقة للشرع أم لا؟
فاعرضها على الكتاب والميزان، فإن الله تعالى يقول: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [سورة الحديد:25]، فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله، وما ثبت عن الصحابة التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وزنه أيضا بالميزان الصحيحة العادلة العقلية، واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، ولا تتبع الظن فإنه لا يغني من الحق شيئا، وسل الله أن يلهمك ويهديك.

فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي « أن الله تعالى قال: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» .

وقد ثبت في صحيح مسلم: « أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام [ ص: 277 ] من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .

والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ، فالضلال وقع في السمع والعقل، فإن أقواما نصروا الإسلام - أو السنة - في ظنهم، وصاروا يدخلون في الإسلام - أو السنة - ما ليس منه، ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب - وتفسير السلف له - والسنة، وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله، مما عرف بالنص والإجماع.

ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة، ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات، وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول، بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث، وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها، وكذلك نجدهم - وغيرهم - في العقليات قد [ ص: 278 ] أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة، وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك، وأهم الأمور معرفة ما جاء به الرسول وفهم ذلك.

فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ، وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله، بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول، ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ، وهو بعد في قطع هذه المسافة، فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس، حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه، فإنه لو قدر واحد من العلماء النظار، لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع، لينظر في قوله وقول غيره، كما يفعل من نظر في أقوال النظار، فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى؟.

ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس، وقد بلغه أن لبقراط وجالنيوس وأمثالهم فيها نصا، لم ينبغ له أن يثبت القول فيها [ ص: 279 ] حتى يعرف ما قاله هؤلاء، مع جواز غلطهم في نفس الأمر، فكيف بنصوص الأنبياء في الأمور الإلهية؟.

وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية، من الفلاسفة وغيرهم، أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل، لا بإظهار الحقائق، إذ لم يكن إلا ذلك، فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليدا لهم، بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه، هل يطابق قول هؤلاء، أم يورث علما ضروريا بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمدا أو خطأ: إما عنادا وإما ضلالا؟ وهذا مبسوط في موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية