الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها، التي عجز المتكلمون عن حلها، ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلا ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وكل ما سوى الله مفعول فيكون محدثا، لا يناقض ذلك، وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا: إن الله كان، ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئا، بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعا، لا مقدورا له في الأزل، ثم إنه صار ذلك ممكنا مقدورا بدون تجدد شيء، فيحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلا.

ثم قال أئمة هذه الطريقة - وهو الجهم وأبو الهذيل - بأن لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها، زاد الجهم: وبفناء العالم كله: الجنة [ ص: 281 ] والنار، فيكون الرب ما زال معطلا من الكلام والفعال، ثم لا يزال معطلا من الكلام والفعال، وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جدا بالنسبة إلى الأزل والأبد، فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل، ورأى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل مالا يجوز السكوت عن رده، لكن هؤلاء، وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم، فالمتفلسفة المنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع، وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل، ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا. وأما أولئك فقد يتأولون النصوص، أو يقولون: لها معنى لا نفهمه، ولا يقولون: إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل، بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه، فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل، وتارة في تأويل المنقول.

وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه، ولكن يقولون كلاما مضمونه أنه كذب للمصلحة، ولهذا سماهم المسلمون: ملحدين: فإنهم يلحدون في آيات الله، ولهذا يفضي بهم تأويل [ ص: 282 ] النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض، مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك.

وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد، إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها، وإن كانوا متأولين في ذلك، فلما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل، ثم أمكنه ذلك بلا سبب، وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح، وأن الممكن انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث، والفاعل أمكنه الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكنا بلا سبب - أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم، بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثرا: إما أن يكون موجودا في الأزل، وإما أن لا يكون، فإن كان موجودا لزم القول بأنه لم يزل فاعلا، لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره، وإن لم يكن موجودا امتنع وجوده بعد هذا، لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره، فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل، وإذا حصل وجب وجود الفعل.

وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها، بأن [ ص: 283 ] يقولوا: المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته، أو إمكان الفعل وانتفاء المانع، وهو الأزل، أو حصول المصلحة.

وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعناية لم يكن جوابا صحيحا، فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به، والمعلوم يتبع الإرادة، فإن لم يكن المرجح ثابتا في نفس الأمر، لم يكن العلم مرجحا. وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين. وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة، فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه، بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح.

التالي السابق


الخدمات العلمية