الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( صبغة الله ) : أي دين الله ، قاله ابن عباس وسمي صبغة لظهور أثر الدين على صاحبه ، كظهور أثر الصبغ على الثوب ، ولأنه يلزمه ولا يفارقه ، كالصبغ في الثوب ، أو فطرة الله ، قاله مجاهد ومقاتل ; أو خلقة الله ، قاله الزجاج وأبو عبيد ; أو سنة الله ، قاله أبو عبيدة ; أو الإسلام ، قاله مجاهد أيضا ; أو جهة الله يعني القبلة ، قاله ابن كيسان ; أو حجة الله على عباده ، قاله الأصم : أو الختان ; لأنه يصبغ صاحبه بالدم . والنصارى إذا ولد لهم مولود غمسوه في السابع في ماء يقال له المعمودية ، فيتطهر عندهم ويصير نصرانيا . استغنوا به عن الختان ، فرد الله عليهم بقوله : ( صبغة الله ) ، أو الاغتسال للدخول في الإسلام عوضا عن ماء المعمودية ، حكاه الماوردي ; أو القربة إلى الله ، حكاه ابن فارس في المجمل ; أو التلقين ، يقال : فلان يصبغ فلانا في الشيء ، أي يدخله فيه ويلزمه إياه ، كما يجعل الصبغ لازما للثوب . وهذه أقوال متقاربة ، والأقرب منها هو الدين والملة ; لأن قبله : ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ) الآية . وقد تضمنت هذه الآية أصل الدين الحنيفي ، فكنى بالصبغة عنه ، ومجازه ظهور الأثر ، أو ملازمته لمن ينتحله . فهو كالصبغ في هذين الوصفين ، كما قال . وكذلك الإيمان ، حين تخالط بشاشته القلوب . والعرب تسمي ديانة الشخص لشيء ، واتصافه به صبغة . قال بعض شعراء ملوكهم :


وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ




صبغنا على ذاك أبناءنا     فأكرم بصبغتنا في الصبغ



وقد روي عن ابن عباس أن الأصل في تسمية الدين صبغة : أن عيسى حين قصد يحيى بن زكريا فقال : جئت لأصبغ منك ، وأغتسل في نهر الأردن . فلما خرج ، نزل عليه روح القدس ، فصارت النصارى يفعلون ذلك بأولادهم في كنائسهم ، تشبيها بعيسى ، ويقولون : الآن صار نصرانيا حقا . وزعموا أن في الإنجيل ذكر عيسى بأنه الصابغ . ويسمون الماء الذي يغمسون فيه أولادهم : المعمودية - بالدال - ويقال : المعمورية - بالراء - . قال : ويسمون ذلك الفعل التغميس ، ومنهم من يسميه الصبغ ، فرد الله ذلك بقوله : ( صبغة الله ) . وقال الراغب : الصبغة إشارة إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها عن البهائم ، ورشحنا بها لمعرفته ومعرفة طلب الحق ، وهو المشار إليه بالفطرة . وسمي ذلك بالصبغة من حيث إن قوى الإنسان ، إذا اعتبرت جرت مجرى الصبغة في المصبوغ ، ولما كانت النصارى ، إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون : نصرناه ، فقال : إن الإيمان بمثل ما آمنتم به صبغة الله .

وقرأ الجمهور : صبغة الله بالنصب ، ومن قرأ برفع ملة ، قرأ برفع صبغة ، قاله الطبري . وقد تقدم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة . فأما النصب ، فوجه على أوجه ، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر [ ص: 412 ] المؤكد عن قوله : ( قولوا آمنا بالله ) . وقيل : عن قوله : ( ونحن له مسلمون ) . وقيل : عن قوله : ( فقد اهتدوا ) وقيل : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا صبغة الله . وقيل : بدل من قوله : ( ملة إبراهيم ) ، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله : ( ونحن له عابدون ) ، إلا إن قدر هناك قول ، وهو إضمار لا حاجة تدعو إليه ، ولا دليل من الكلام عليه . وأما البدل فهو بعيد ، وقد طال بين المبدل منه والبدل بجمل ، ومثل ذلك لا يجوز . والأحسن أن يكون منتصبا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : ( قولوا آمنا ) ، فإن كان الأمر للمؤمنين ، كان المعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم . وإن كان الأمر لليهود والنصارى ، فالمعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيرا ، لا مثل تطهيرنا . ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) ، إذ قبله : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) ، معناه : صنع الله ذلك صنعه ، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ، كما تقول لرجل يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، يريد رجلا يصطنع الكرم . وأما قراءة الرفع ، فذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك الإيمان صبغة الله .

( ومن أحسن من الله صبغة ) : هذا استفهام ومعناه : النفي ، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة . وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل ، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن ، أو يراد التفضيل ، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسنا ، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء . وانتصاب " صبغة " هنا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ . وقد ذكرنا أن ذلك غريب ، أعني نص النحويون على أن من التمييز المنقول تمييزا نقل من المبتدأ ، والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله . فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين ، لا بين الصابغين .

( ونحن له عابدون ) : متصل بقوله : ( آمنا بالله ) ، ومعطوف عليه . قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة ، أو نصب على الإغراء ، بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه . وانتصابها يعني : صبغة الله على أنها مصدر مؤكد ، هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حذام . انتهى . وتقديره : في الإغراء " عليكم صبغة الله " ليس بجيد ; لأن الإغراء إذا كان بالظرف والمجرور ، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه " بالزموا صبغة الله " . وتقدم الكلام على العبادة في قوله : ( إياك نعبد ) ، وأما هنا فقيل : عابدون موحدون ، ومنه : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، أي ليوحدون . وقيل : مطيعون متبعون ملة إبراهيم وصبغة الله . وقيل : خاضعون مستكينون في اتباع ملة إبراهيم ، غير مستكبرين ، وهذه أقوال متقاربة .

التالي السابق


الخدمات العلمية