الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها وجوب النفقة والسكنى وهو مؤنة السكنى لبعض المعتدات دون بعض ، وجملة الكلام أن المعتدة إما إن كانت عن طلاق أو عن فرقة بغير طلاق وإما إن كانت عن وفاة ، ولا يخلو من أن تكون معتدة من نكاح صحيح أو فاسد أو ما هو في معنى النكاح الفاسد : فإن كانت معتدة من نكاح صحيح عن طلاق فإن كان الطلاق رجعيا فلها النفقة والسكنى بلا خلاف ; لأن ملك النكاح قائم فكان الحال بعد الطلاق كالحال قبله ولما نذكر من دلائل أخر ، وإن كان الطلاق ثلاثا أو بائنا فلها النفقة والسكنى إن كانت حاملا بالإجماع لقوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وإن كانت حائلا فلها النفقة والسكنى عند أصحابنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي لها السكنى ولا نفقة لها وقال ابن أبي ليلى : لا نفقة لها ولا سكنى واحتجا بقوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } خص الحامل بالأمر بالإنفاق عليها فلو وجب الإنفاق على غير الحامل لبطل التخصيص .

                                                                                                                                وروي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت : { طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي النبي صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى } ولأن النفقة تجب بالملك ، وقد زال الملك بالثلاث والبائن إلا أن الشافعي يقول : عرفت وجوب السكنى في الحامل بالنص بخلاف البائن ، ولنا قوله تعالى { أسكنوهن من [ ص: 210 ] حيث سكنتم من وجدكم } وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم " ولا اختلاف بين القراءتين لكن إحداهما تفسير الأخرى كقوله عز وجل { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه " أيمانهما " وليس ذلك اختلاف القراءة بل قراءته تفسير القراءة الظاهرة كذا هذا .

                                                                                                                                ولأن الأمر بالإسكان أمر بالإنفاق ; لأنها إذا كانت محبوسة ممنوعة عن الخروج لا تقدر على اكتساب النفقة فلو لم تكن نفقتها على الزوج ولا مال لها لهلكت ، أو ضاق الأمر عليها وعسر ، وهذا لا يجوز وقوله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } من غير فصل بين ما قبل الطلاق وبعده في العدة ، ولأن النفقة إنما وجبت قبل الطلاق لكونها محبوسة عن الخروج والبروز لحق الزوج وقد بقي ذلك الاحتباس بعد الطلاق في حالة العدة وتأبد بانضمام حق الشرع إليه ; لأن الحبس قبل الطلاق كان حقا للزوج على الخلوص وبعد الطلاق تعلق به حق الشرع حتى لا يباح لها الخروج ، وإن أذن الزوج لها بالخروج فلما وجبت به النفقة قبل التأكد فلأن تجب بعد التأكد أولى .

                                                                                                                                وأما الآية ففيها أمر بالإنفاق على الحامل وأنه لا ينفي وجوب الإنفاق على غير الحامل ولا يوجبه أيضا فيكون مسكونا موقوفا على قيام الدليل وقد قام دليل الوجوب وهو ما ذكرنا .

                                                                                                                                وأما حديث فاطمة بنت قيس فقد رده عمر رضي الله عنه فإنه روي أنها لما روت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة قال عمر رضي الله عنه : لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وفي بعض الروايات قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا ونأخذ بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لها السكنى والنفقة وقول عمر رضي الله عنه " لا ندع كتاب ربنا " يحتمل أنه أراد به قوله عز وجل : أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم ، كما هو قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ويكون هذا قراءة عمر أيضا ويحتمل أنه أراد قوله عز وجل { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } مطلقا ، ويحتمل أنه أراد بقوله : لا ندع كتاب ربنا في السكنى خاصة وهو قوله عز وجل { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } كما هو القراءة الظاهرة ، وأراد بقوله رضي الله عنه " سنة نبينا " ما روي عنه رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لها النفقة والسكنى } ويحتمل أن يكون عند عمر رضي الله عنه في هذا تلاوة رفعت عينها وبقي حكمها فأراد بقوله : " لا ندع كتاب ربنا " تلك الآية كما روي عنه أنه قال في باب الزنا : كنا نتلوا في سورة الأحزاب : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم ، ثم رفعت التلاوة وبقي حكمها .

                                                                                                                                كذا ههنا وروي أن زوجها أسامة بن زيد كان إذا سمعها تتحدث بذلك حصبها بكل شيء في يده .

                                                                                                                                وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لها : لقد فتنت الناس بهذا الحديث وأقل أحوال إنكار الصحابة على راوي الحديث أن يوجب طعنا فيه ، ثم قد قيل في تأويله إنها كانت تبدو على أحمائها أي تفحش عليهم باللسان من قولهم : بذوت على فلان ، أي فحشت عليه ، أي كانت تطيل لسانها عليهم بالفحش فنقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت ابن أم مكتوم ولم يجعل لها نفقة ولا سكنى ; لأنها صارت كالناشزة إذ كان سبب الخروج منها ، وهكذا نقول فيمن خرجت من بيت زوجها في عدتها أو كان منها سبب أوجب الخروج أنها لا تستحق النفقة ما دامت في بيت غير الزوج ، وقيل : إن زوجها كان غائبا فلم يقض لها بالنفقة والسكنى على الزوج لغيبته ; إذ لا يجوز القضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر ، فإن قيل : روي أن زوجها خرج إلى الشام وقد كان وكل أخاه فالجواب أنه إنما وكله بطلاقها ولم يوكله بالخصوصية ، وقولهما إن النفقة تجب لها بمقابلة الملك ممنوع فإن للملك ضمانا آخر وهو المهر على ما نذكر إن شاء الله تعالى ، وإنما تجب بالاحتباس ، وقد بقي بعد الطلاق الثلاث والبائن فتبقى النفقة وسواء كانت المعتدة عن طلاق كبيرة أو صغيرة مسلمة أو كتابية ; لأن ما ذكرنا من الدلائل لا يوجب الفصل ، ولا نفقة ولا سكنى للأمة المعتدة عن طلاق إذا لم يبوئها المولى بيتا ; لأنه إذا لم يبوئها المولى بيتا فحق الحبس لم يثبت للزوج .

                                                                                                                                ألا ترى أن لها أن تخرج فإن كان المولى قد بوأها بيتا فلها السكنى والنفقة لثبوت حق الحبس للزوج ، وكذلك [ ص: 211 ] المدبرة وأم الولد إذا طلقهما وبوأهما المولى بيتا أو لم يبوئهما ; لأن كل واحدة منهما أمة ، وكذا المكاتبة والمستسعاة على أصل أبي حنيفة ، وإن أعتقت أم الولد أو مات عنها مولاها فلا نفقة لها ولا سكنى ; لأنها غير محبوسة .

                                                                                                                                ألا ترى أن لها أن تخرج فلا تجب لها النفقة والسكنى كالمعتدة من نكاح فاسد ; لأن عدتها كعدة المنكوحة نكاحا فاسدا ، هذا إذا كانت معتدة عن طلاق من نكاح صحيح فإن كانت معتدة من نكاح فاسد فلا سكنى لها ولا نفقة ; لما ذكرنا أن حال العدة معتبرة بحال النكاح ولا سكنى ولا نفقة في النكاح الفاسد ، فكذا في العدة منه ، هذا إذا كانت معتدة عن طلاق فإن كانت معتدة عن فرقة بغير طلاق من نكاح صحيح فإن كانت الفرقة من قبله فلها النفقة والسكنى كيفما كانت الفرقة ، وإن كانت من قبلها فإن كانت بسبب ليس بمعصية كالأمة إذا أعتقت فاختارت نفسها ، وامرأة العنين إذا اختارت الفرقة فلها السكنى والنفقة ، وإن كانت بسبب هو معصية كالمسلمة قبلت ابن زوجها بشهوة قالوا : لا نفقة لها ولها السكنى ; لأن السكنى فيها حق الله تعالى وهي مسلمة مخاطبة بحقوق الله تعالى .

                                                                                                                                وأما النفقة فتجب حقا لها على الخلوص فإذا وقعت الفرقة من قبلها بغير حق فقد أبطلت حق نفسها بخلاف المعتقة وامرأة العنين ; لأن الفرقة وقعت من قبلهما بحق فلا تسقط النفقة ، هذا إذا كانت معتدة عن طلاق أو عن فرقة بغير طلاق ، فإن كانت معتدة عن وفاة فلا سكنى لها ولا نفقة في مال الزوج سواء كانت حائلا أو حاملا فإن النفقة في باب النكاح لا تجب بعقد النكاح دفعة واحدة كالمهر وإنما تجب شيئا فشيئا على حسب مرور الزمان ، فإذا مات الزوج انتقل ملك أمواله إلى الورثة فلا يجوز أن تجب النفقة والسكنى في مال الورثة ، وسواء كانت حرة أو أمة ، كبيرة أو صغيرة ، مسلمة أو كتابية ; لأن الحرة المسلمة الكبيرة لما لم تستحق النفقة والسكنى في عدة الوفاة فهؤلاء أولى ، وكذا المعتدة من نكاح فاسد في الوفاة لا سكنى لها ولا نفقة ; لأنهما لا يستحقان بالنكاح الصحيح في هذه العدة فبالنكاح الفاسد أولى ، والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية