الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الترجيح بين رأي الصديق والفاروق في أسرى بدر )

                          " وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب ، فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث : ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه ، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم ، ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب ، ولتشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له في ذلك بإبراهيم وعيسى ، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ، ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ، ولموافقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر أولا ، ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه ، ولكمال نظر الصديق فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا ، وغلبة جانب الرحمة على جانب العقوبة .

                          ( قالوا ) : وأما بكاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنما كان رحمة لنزول العذاب لمن أراد بذلك عرض الدنيا ، ولم يرد ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وإن أراده بعض الصحابة ، فالفتنة كانت تعم ولا تصيب من أراد ذلك خاصة ، كما هزم العسكر يوم حنين بقول أحدهم : لن نغلب اليوم من قلة ، وبإعجاب كثرتهم لمن أعجبته منهم ، فهزم الجيش بذلك فتنة ومحنة ، ثم استقر الأمر على النصر والظفر والله أعلم " اهـ .

                          أقول : إن في هذا الكلام على حسنه وكثرة فوائده مغالطات غير مقصودة ، وبعدا عن معنى الآيتين يجب بيانه لتحرير الموضوع ، وإظهار علو أحكام القرآن وحكمه ، وكونها فوق اجتهاد جميع المجتهدين ؛ لأنها كلام رب العالمين ، وما صرف المحقق ابن القيم عن فقهها وبيان علوها وفوقيتها إلا توجيه ذكائه ومعارفه إلى تفضيل اجتهاد أبي بكر على اجتهاد عمر [ ص: 85 ] لإجماع أهل السنة على كونه أفضل منه ، وإن كانوا لم يختلفوا في أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل أو الأفضل ، فكيف وقد اختاره الرسول بعد العلم بموافقة جمهور الصحابة له ما عدا عمر وكذا عبد الله بن رواحة ، وسعد بن أبي وقاص في بعض الروايات ، وهذا الجمهور هو الذي كان يريد من الفداء عرض الدنيا لفقرهم ، وحاشا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصديقه الأكبر من إرادة ذلك لذاته ، ولا يقدح في مقامهما إرادتهما لمواساة الجمهور ، وتعويض شيء مما فاتهم من عير أبي سفيان ، بعد ما كان من بلائهم في القتال على جوعهم ، وعدم استعدادهم له ، وليس هذا الذنب من الفتن التي يعم بها العذاب كما أشار إليه ابن القيم ، وهو مما يمكن وقوعه مع وجوده صلى الله عليه وسلم .

                          والتحقيق في المسألة الذي تدل عليه الآيتان دلالة واضحة تؤيدها الروايات الواردة في موضوعها وكذا آية سورة محمد عليه الصلاة والسلام ، أن رأي عمر هو الصواب الذي كان ينبغي العمل به في مثل الحال التي كان عليها المسلمون مع أعدائهم في وقت غزوة بدر ، وأما رأي الصديق ، فهو الذي تقتضي الحكمة والرحمة العمل به بعد الإثخان في الأرض بالغلب والسلطان ، ولكن كان من قدر الله تعالى أن نفذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي أبي بكر ؛ لأنه رأى أن جمهور المسلمين يوافقه فيه ، وإن كان للكثيرين منهم قصد دون قصده الذي بنى عليه رأيه ، وهو إرادتهم للمال لحاجتهم الدنيوية إليه كما صرحت به الآية الكريمة ، وفي الحديث الذي تقدم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هوي رأي أبي بكر ، ولم يهو رأي عمر ، وعندي أن أسباب هواه لرأي أبي بكر : ( 1 ) حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إرضاء الجمهور لعذرهم الذي بيناه آنفا في إرادتهم لعرض الدنيا ( 2 ) تغليبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرحمة على العقوبة إذا لم يكن في الرحمة إضاعة لحد من حدود الله ، ولا مخالفة لأمره تعالى ( 3 ) رجاء إيمانهم كلهم أو بعضهم ، وكان من حكمة الله تعالى ورحمته في هذا القدر أن بين لرسوله وللمؤمنين سنته تعالى في التغالب بين الأمم ، وما ينبغي لأنبيائه وأتباعهم في حالتي الضعف والإثخان في الأرض ، وسائر ما دلت عليه الآيات من الأحكام الحربية والسياسية والتشريعية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية