الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الوجه التاسع من وجوه إعجازه (انقسامه إلى محكم ومتشابه) فهو محكم لا يتطرق النقص إليه والاختلاف، ويشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز. وقد اختلف علماؤنا في التعبير عن المحكم والمتشابه على أقوال كثيرة، وألفوا فيه تواليف منيرة، وقصدنا في هذه النبذة اختصار ما فيها. فقيل: الحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقال الماوردي: المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا. والمتشابه بخلافه. [ ص: 104 ] وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان. وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره. وأخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: قل تعالوا ، والآيتان بعدها. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى: منه آيات محكمات . قال: من هاهنا: قل تعالوا إلى ثلاث آيات. من هاهنا: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، إلى ثلاث آيات بعدها. قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن عكرمة وقتادة وغيرهما أن المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به. واختلف أيضا هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه أو لا يعلمه إلا الله على قولين، منشؤهما الاختلاف في قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون ، هل هو معطوف ويقولون حال، أو مبتدأ خبره يقولون والواو للاستئناف. وعلى الأول طائفة يسيرة، منهم مجاهد وهو راويه عن ابن عباس: فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم - قال: أنا ممن يعلم تأويله. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: والراسخون في العلم - قال: يعلمون تأويله ... ويقولون آمنا له. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: الراسخون في العلم يعلمون تأويله. ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه. واختار هذا القول النووي، فقال في شرح مسلم: إنه الأصح، لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته. [ ص: 105 ] وقال ابن الحاجب: إنه الظاهر. وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم خصوصا أهل السنة فذهبوا إلى الثاني، وهو أصح الروايات عن ابن عباس. قال ابن السمعاني: لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة. واختاره الغنيمي. قال: وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة، لكنه سقط في هذه المسألة. قال: ولا غرو فإن لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة. قلت: ويدل لصحة مذهب الأكثرين ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والحاكم في مستدركه عن ابن عباس - أنه كان يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله. ويقول الراسخون في العلم آمنا به، فهذا يدل على أن الواو للاستئناف، لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم كلامه في ذلك على من دونه. ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه، ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب. وحكى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب أيضا: ويقول الراسخون. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش، قال في قراءة ابن مسعود: وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: هو الذي أنزل عليك الكتاب ... إلى قوله: أولو الألباب ، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم. وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا. وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله ... الحديث. [ ص: 106 ] وأخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به. وأخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس، قال: نؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله. وأخرج أيضا عن عائشة، قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه. وأخرج الدارمي في مسنده، عن سليمان بن يسار - أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر - وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت، قال: أنا عبد الله صبيغ ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه. وفي رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرا، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له إلى أرضه. وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين. وأخرج الدارمي، عن عمر بن الخطاب - أنه قال: إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. [ ص: 107 ] فهذه الآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله، وأن الخوض فيه مذموم، وسيأتي قريبا زيادة على ذلك. قال الطيبي: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه خلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أو لا. والثاني النص. والأول إما أن يكون دلالته على ذلك الغير أرجح أم لا، والأول هو الظاهر. والثاني إما أن يكون مساويه أم لا. والأول هو المجمل والثاني المؤول. فالمشترك هو النص، والظاهر هو المحكم، والمشترك من المجمل، والمؤول هو المتشابه. ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم موضع المتشابه، فالواجب أن يفسر الحكم بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية، وهو الجمع مع التقسيم، لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما يشاء، فقال أولا: فأما الذين في قلوبهم زيغ ... إلى أن قال: والراسخون في العلم يقولون آمنا به . وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك: والراسخون في العلم ، لإتيان لفظ الرسوخ، لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع العام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طرق الرشاد، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق. وكفى بدعاء الراسخين في العلم: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا . شاهدا على أن الراسخين في العلم مقابل لقوله: الذين في قلوبهم زيغ . وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله: إلا الله تام، وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأنه من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: " فاحذروهم ". وقال بعضهم: العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، وكمن صنف كتابا أجمل فيه أحيانا فيكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره. [ ص: 108 ] وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والتشاغل به هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها. وفي ختم الآية بقوله تعالى: وما يذكر إلا أولو الألباب ، تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين - يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من ذوي العقول، ومن ثم قال الراسخون: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ... إلى آخر الآية، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللدني بعد أن استغاثوا به من الزيغ النفساني. وقال الخطابي: المتشابه على ضربين: أحدها ما إذا رد إلى الحكم واعتبر به عرف معناه. والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيظنون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون به فيفتتنون. وقال ابن الحصار: قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المحكمات أنها أم الكتاب، لأنه إليها ترد المتشابهات، وهي التي تعتمد في فهم مراد الله من خلقه، أي في كل ما تعبدهم به من معرفته وتصديق رسله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وبهذا الاعتبار كانت أمهات. ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه. ومعنى ذلك أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات، ومراد الشارع منا التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين، ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك. ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التتبع إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والشروع، ومثل هؤلاء من المشركين الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءو بها، ويظنون أنهم لو جاءتهم آيات أخر آمنوا عندها جهلا منهم، وما علموا أن الإيمان بإذن الله تعالى. انتهى. [ ص: 109 ] وقال الراغب في مفردات القرآن: الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق. ومتشابه على الإطلاق. ومحكم من وجه ومتشابه من وجه. فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى فقط، ومن جهتهما. فالأول ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، إما من جهة الغرابة. نحو: اللازب وينزفون. أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام، نحو: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء . وضرب لبسطه، نحو: ليس كمثله شيء . لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام، نحو: أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما . تقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا. والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى، وأوصاف القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو ليس من جنسه. والمتشابه من جهتها خمسة أضرب: الأول - من جهة الكمية، كالعموم والخصوص، نحو: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . والثاني - من جهة الكيفية، كالوجوب والندب، نحو: فانكحوا ما طاب لكم من النساء . [ ص: 110 ] والثالث - من جهة الزمان، كالناسخ والمنسوخ، نحو: اتقوا الله حق تقاته . والرابع - من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها، نحو: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ، إنما النسيء زيادة في الكفر . فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية. والخامس - من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط الصلاة والنكاح. قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم. ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج الدابة، ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة، والأحكام الغلقة. وضرب متردد بين الأمرين يختص بصرفته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على من دونهم، وهو المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل. وإذا عرفت هذه الجملة عرفت أن الوقوف على قوله: وما يعلم تأويله إلا الله ، ووصله بقوله: والراسخون في العلم - جائزان، وأن لكل واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. انتهى. وقال الإمام فخر الدين: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل، وهو إما لفظي وإما عقلي. والأول لا يمكن اعتباره في المسائل الأصولية، لأنه لا يكون قاطعا، لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة [ ص: 111 ] المعروفة، وانتفاؤها مظنون، والموقوف على المظنون مظنون، والظني لا يكتفى به في الأصول. وأما العقلي فإنه يفيد صرف اللفظ عن ظاهره لكون الظاهر محالا. وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل، لأن طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز وتأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدليل اللفظي، والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا الظن، والظن لا يعول عليه في المسائل الأصولية القطعية فلهذا اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف - بعد إقامة الدليل القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال - ترك الخوض في تفسير التأويل. انتهى. وحسبك بهذا الكلام من الإمام.

التالي السابق


الخدمات العلمية