الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي قال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل اللغة : الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة ، والحصر حصر العدو ، ويقال : أحصره المرض وحصره العدو . وحكي عن الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر ، وأنكره أبو العباس المبرد والزجاج وقالا : هما مختلفان في المعنى ، ولا يقال في المرض حصره ولا في العدو أحصره . قالا : وإنما هذا كقولهم حبسه : إذا جعله في الحبس ، وأحبسه : أي عرضه للحبس ، وقتله : أوقع به القتل ، وأقتله : أي عرضه للقتل ، وقبره : دفنه في القبر ، وأقبره : عرضه للدفن في القبر ؛ وكذلك حصره : حبسه وأوقع به الحصر ، وأحصره : عرضه للحصر وروى ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال : " لا حصر إلا حصر عدو ، فأما من حبسه الله بكسر أو مرض فليس بحصر " فأخبر ابن عباس أن الحصر يختص بالعدو وأن المرض لا يسمى حصرا ؛ وهذا موافق لقول من ذكرنا قولهم من أهل اللغة في معنى الاسم . ومن الناس من يظن أن هذا يدل من قوله على أن المريض لا يجوز له أن يحل ولا يكون محصرا ؛ وليس في ذلك دلالة على ما ظن ؛ لأنه إنما أخبر عن معنى الاسم ولم يخبر عن معنى الحكم ، فأعلم أن اسم الإحصار يختص بالمرض والحصر يختص بالعدو . وقد اختلف السلف في حكم المحصر على ثلاثة أنحاء : روي عن ابن مسعود وابن عباس : " العدو والمرض سواء يبعث بدم ويحل به إذا نحر في الحرم " وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري .

والثاني : قول ابن عمر : " إن المريض لا يحل ولا يكون محصرا إلا بالعدو " وهو قول مالك والليث والشافعي . والثالث : قول ابن الزبير وعروة بن الزبير : " إن المرض والعدو سواء لا يحل إلا بالطواف " ولا نعلم لهما موافقا من فقهاء الأمصار قال أبو بكر : ولما ثبت بما قدمته من قول أهل اللغة أن اسم الإحصار يختص بالمرض ، وقال الله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وجب أن يكون اللفظ مستعملا فيما هو حقيقة [ ص: 335 ] فيه وهو المرض ، ويكون العدو داخلا فيه بالمعنى .

فإن قيل فقد حكي عن الفراء أنه أجاز فيهما لفظ الإحصار . قيل له لو صح ذلك كانت دلالة الآية قائمة في إثباته في المرض ؛ لأنه لم يدفع وقوع الاسم على المرض ، وإنما أجازه في العدو ، فلو وقع الاسم على الأمرين لكان عموما فيهما موجبا للحكم في المريض والمحصور بالعدو جميعا .

فإن قيل : لم تختلف الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممنوعين بالعدو ، فأمرهم الله بهذه الآية بالإحلال من الإحرام ، فدل على أن المراد بالآية هو العدو قيل له لما كان سبب نزول الآية هو : العدو ، ثم عدل عن ذكر الحصر وهو يختص بالعدو إلى الإحصار الذي يختص بالمرض ، دل ذلك على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل اللفظ على ظاهره ؛ ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالإحلال وحل هو ، دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ ، فكان نزول الآية مفيدا للحكم في الأمرين . ولو كان مراد الله تعالى تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظا يختص به دون غيره ؛ ومع ذلك لو كان اسما للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبا للاقتصار بحكمه عليه ، بل كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب . ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن حجاج الصواف قال : حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال : سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل قال عكرمة : فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا : صدق . ومعنى قوله فقد حل فقد جاز له أن يحل ، كما يقال : حلت المرأة للزوج ، يعني جاز لها أن تتزوج .

فإن قيل : روى حماد وابن زيد عن أيوب عن عكرمة أنه قال في المحصر يبعث بالهدي : " فإذا بلغ الهدي محله حل وعليه الحج من قابل " وقال : " لقد رضي الله سبحانه بالقصاص من عباده ويأخذ منهم العدو أن عليه حجا مكان حج وإحراما مكان إحرام " .

فزعم هذا القائل أنه لو كان عند عكرمة هذا الحديث لما كان قال : " يبعث بالهدي " ولقال : " يحل " كما روي في الخبر . وهذا القائل إنما غلط حين ظن أن المعنى في قوله : " حل " وقوع الإحلال بنفس الإحصار ؛ وليس هو كما ظن وإنما معناه أنه جاز له أن يحل كما ذكرنا مثله فيما يطلقه الناس من قولهم : " حلت المرأة للأزواج " يريدون به : قد جاز لها أن تحل بالتزويج . ويدل عليه من جهة النظر أن المحصر بالعدو لما جاز له الإحلال لتعذر وصوله إلى البيت وكان ذلك [ ص: 336 ] موجودا في المرض ، وجب أن يكون بمنزلته وفي حكمه .

ألا ترى أنه متى لم يتعذر وصوله إلى البيت بمنع العدو لم يجز له أن يحل ؟ فدل ذلك على أن المعنى فيه تعذر وصوله إلى البيت . ويدل على ذلك موافقة مخالفينا إيانا على أن المرأة إذا منعها زوجها من حجة التطوع بعد الإحرام ، جاز لها الإحلال وكانت بمنزلة المحصر مع عدم العدو ؛ وكذلك من حبس في دين أو غيره فتعذر عليه الوصول إلى البيت كان في حكم المحصر ؛ فكذلك المريض .

ويدل عليه أن سائر الفروض لا يختلف حكمها في كون المنع منها بالعدو أو المرض ، ألا ترى أن الخائف جائز له فعل الصلاة بالإيماء أو قاعدا إذا تعذر عليه فعلها قائما كما يجوز ذلك للمريض ؟ فكذلك المضي في الإحرام واجب أن لا يختلف حكمه عند تعذر الوصول إلى البيت لمرض كان ذلك أو لخوف عدو ، وكذلك هذا في استقبال القبلة إذا كان خائفا أو مريضا ، وكذلك من عدم الماء أو كان مريضا ، ومن لا يجد ما يحتمل به للجهاد ، ومن كان مريضا ؛ لم يختلف حكم الإعذار في سقوط الفرض ، كذلك ينبغي أن لا يختلف حكمها في باب سقوط فرض المضي على الإحرام وجواز الإحلال منه ، والمعنى في الجميع تعذر الفعل .

فإن قيل : لما قال تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ثم عقب ذلك بقوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة دل ذلك من وجهين على أن المريض غير مراد بذكر الإحصار ؛ لأنه لو كان كذلك لما استأنف له ذكرا مع كونه في أول الخطاب ، والوجه الآخر أنه لو كان مرادا له لكان يحل بذلك الدم ولم يكن يحتاج إلى فدية . قيل له : لما قال الله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله منعه الإحلال مع وجود الإحصار إلى وقت بلوغ الهدي محله وهو ذبحه في الحرم ، فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدي محله ، وأباح له حلق الرأس مع إيجاب الفدية . ووجه آخر : وهو أنه ليس كل مرض يمنع الوصول إلى البيت ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة : أتؤذيك هوام رأسك ؟ قال : نعم فأنزل الله الآية ، ولم تكن هوام رأسه مانعته من الوصول إلى البيت ، فرخص الله له في الحلق وأمره بالفدية ، وكذلك المرض المذكور في الآية جائز أن يكون المرض الذي ليس معه إحصار ، والله سبحانه إنما جعل المرض إحصارا إذا منع الوصول إلى البيت ، فليس في ذكره حكم المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارا . ووجه آخر : وهو قوله : فمن كان منكم مريضا يجوز أن يكون عائدا [ ص: 337 ] إلى أول الخطاب ، كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله : وأتموا الحج والعمرة لله ثم عطف عليه قوله : فإن أحصرتم فبين حكمهم إذا أحصروا ، ثم عقبه بقوله : فمن كان منكم مريضا يعني : أيها المحرمون بالحج والعمرة ؛ فبين حكمهم إذا مرضوا قبل الإحصار كما بين حكمهم عند الإحصار ؛ فليس إذا في قوله : فمن كان منكم مريضا دلالة على أن المرض لا يكون إحصارا .

فإن قيل : لما قال في سياق الآية : فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج دل على أن مراده العدو المخوف ؛ لأن الأمن يقتضي الخوف . قيل له : ما الذي يمنع أن يكون المراد الأمن من ضرر المرض المخوف ؟ ولم جعلته مخصوصا بالعدو دون المرض والأمن والخوف موجودان فيهما ؟ وقد روي عن عروة بن الزبير في قوله : فإذا أمنتم يعني : إذا أمنت من كسرك ووجعك فعليك أن تأتي البيت .

فإن قيل : الفرق بين العدو والمرض أن المحصر بعدو إن لم يمكنه أن يتقدم أمكنه الرجوع ، والمرض لا يختلف حاله في التقدم والرجوع . قيل له : فهذا أحرى أن يكون محصرا لتعذر الأمرين عليه ، فهو أعذر ممن يمكنه الرجوع وإن تعذر عليه المضي للخوف . ويقال أيضا : ما تقول في المحصر بالعدو إذا كان محيطا به ولم يمكنه الرجوع ولا التقدم أليس جائزا له الإحلال بلا خلاف بين الفقهاء فقد انتقضت علتك في الفرق بينهما ؛ ومع ذلك فقد قال الشافعي في المحرمة إذا منعها زوجها والمحبوس " إنهما محصران وجائز لهما الإحلال وحال التقدم والرجوع لهما سواء ؛ لأنهما ممنوعان من الأمرين " . وزعم الشافعي أن الفرق بين المريض والخائف أن الله تعالى قد أباح للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن . فيقال له : وكذلك قد أباح للمريض ترك القتال رأسا بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج فكانت رخصة المريض أوسع من رخصة الخائف ؛ لأن الخائف غير معذور في ترك حضور القتال والمريض معذور فيه . وإنما عذر الخائف أن يتحيز إلى فئة ولم يعذر في ترك القتال رأسا ، فالمريض أولى بالعذر في الإحلال من إحرامه .

قال الشافعي : فلما قال الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ثم قال في شأن المحصر الخائف ما قال ، وجب أن لا يزول فرض تمام الحج والعمرة إلا عن الخائف . فيقال له : الذي قال : وأتموا الحج والعمرة لله هو الذي قال : فإن أحصرتم وهو عموم في الخائف وغيره ، فلا يخرج شيء منه إلا بدلالة ، فما الدلالة على تخصيصه بالخائف دون غيره ؟ وقد [ ص: 338 ] نقضت ذلك بإطلاقك للمرأة الإحلال إذا منعها زوجها وليست بخائفة ، وكذلك المحبوس لا يخاف القتل ، وقال المزني : جعل الإحلال رخصة للخائف من العدو ولا يشبه به غيره ، كما جعل المسح على الخفين خاصا لا يشبه به القفازين . فيقال له : إن كان المعنى فيه أنه رخصة فينبغي أن لا يقاس على شيء من الرخص ، فإذا رخص النبي صلى الله عليه وسلم الاستنجاء بالأحجار وجب أن لا يشبه به غيره في جواز الاستنجاء بالخرق والخشب ، ولما كان حلق الرأس من أذى رخصة وجب أن لا يشبه به الأذى في البدن في إباحة الحلق والفدية ، ويلزمه أن لا يشبه بالخائف المحبوس والمرأة إذا منعها زوجها ؛ وجميع ما ذكرنا ينقض اعتلاله

التالي السابق


الخدمات العلمية