الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ومن هنا يظهر الوجه الثاني، الذي تبين به أن ما ذكره الأشعري لا يحتاج إلى ما ذكره القاضي. وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث، هو أبده للعقل، وأرسخ في القلب، وأظهر عند الخاصة والعامة، مما قرره به، وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الأزمان بالحدوث دون بعض، والتخصيص لا بد له من مخصص.

فالأول: إن لم يكن أقوى منه وأجلى، فليس هو دونه، وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلا في أفراده.

لاسيما على أصل القاضي، وموافقيه من المعتزلة والأشعرية، فإنهم يجوزون اختصاص بعض الأزمنة بالحوادث دون بعض، بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص. وإذا أضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة، فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والأزمنة سواء. [ ص: 311 ]

وإذا كانت النسبة مستوية، فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر، تخصيص بلا مخصص.

وإذا قالوا: الإرادة لذاتها تخصص مثلا عن مثل بلا سبب، مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلا، أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلا، وقال: من شأن الأوقات التخصيص بلا مخصص.

وإذا قالت المعتزلة: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد.

فمن كانت هذه الأقوال أقواله، وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث: أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان، فلا بد للتخصيص من مخصص، وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع، ويجعل ذلك بديهيا ضروريا.

كيف يمكنه أن يقول: إن وجود الحوادث بلا محدث، والفعل بلا فاعل، والصنعة بلا صانع، ليس امتناعه بديهيا ضروريا؟

فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية، وجعل ما هو دونها بديهيا ضروريا، تناقضت أقواله، وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله.

وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن، فإنها في غاية السداد والاستقامة. [ ص: 312 ]

ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين: إحداهما: أن الإنسان محدث. والثانية: أن المحدث لا بد له من محدث.

فأبو الحسن - مع جماهير العقلاء - جعلوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه، حيث أثبتوا بما هي أقوى منه وأجلى.

وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة، أو عرضت له فيها شبهة كما تقدم.

وأما المقدمة الأولى: وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة، فإن حدوث الحوادث مشهود.

ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولى: إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها، أو صورتها لا مادتها، أمكنهم إثبات المحدث بناء على ذلك، وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره، وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام.

وأما من أنكر ذلك، وهم جمهور العقلاء، فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة. وأبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد، ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات، بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة، فأثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث، وما لا ينفك عن الحوادث فهو [ ص: 313 ] حادث. وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداء، وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري.

وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري، كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم، كالقاضي أبي بكر وأتباعه - صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظريا. وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها، لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص، وهذا عند هؤلاء ضروري، كافتقار الممكن إلى الواجب.

ثم الذي سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظريا، وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا، وهي أقرب مما بعده.

فجاء من بعدهم، كالرازي، ضم إلى ذلك نفي الدور أيضا، ثم هو والآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة، واستصعب ذلك على الآمدي، حتى قال: إنه عاجز عن تمشيها، وحل ما يرد عليها، كما ذكرناه.

ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع. وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة، ويعدم أخرى، فهو سهل متيسر، معلوم ببداءة العقول.

فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعا وعقلا، كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها، حتى آل الأمر [ ص: 314 ] بهم إلى الجهل العظيم، وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتا ووجودا، وأكثرها وأقواها أدلة، وأولاها بالعلم من كل معلوم، وأحقها بأن يكون مستقرا في الفطرة، دائم الحصول في القلوب، حاصلا بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية