الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            كتاب الصيد

                                                            عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ، وعن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضاري نقص من عمله كل يوم قيراطان وفي رواية لمسلم من اتخذ كلبا إلا كلب زرع أو غنم أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان وفي رواية له قال عبد الله وقال أبو هريرة أو كلب حرث .

                                                            التالي السابق


                                                            (كتاب الصيد) .

                                                            (الحديث الأول)

                                                            عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ، وعن نافع ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضاري نقص من عمله كل يوم قيراطان [ ص: 27 ] (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه من الطريق الأولى مسلم والنسائي من هذا الوجه من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري والشيخان والنسائي من رواية حنظلة بن أبي سفيان وزاد فيه مسلم قال سالم ، وكان أبو هريرة يقول أو كلب حرث، وكان صاحب حرث ، ومسلم والنسائي من رواية محمد بن أبي حرملة بلفظ نقص من عمله كل يوم قيراط قال عبد الله وقال أبو هريرة أو كلب حرث ، ومسلم من رواية عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر أربعتهم عن سالم عن أبيه وأخرجه من الطريق الثانية الشيخان من طريق مالك والترمذي من طريق أيوب كلاهما عن نافع عن ابن عمر وأخرجه الشيخان من رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر وأخرجه مسلم من رواية أبي الحكم عن ابن عمر بلفظ من اتخذ كلبا إلا كلب زرع أو غنم أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراط وأبو الحكم هو عمران بن الحارث السلمي ذكره المزي وليس له عند مسلم سوى هذا الحديث وذكر النووي أنه عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي والأول أثبت.

                                                            (الثانية) فيه جواز اقتناء الكلب إذا كان بإحدى صفتين (إحداهما) أن يكون كلب صيد وهو المراد بالضاري المذكور في الرواية الثانية وسنتكلم عليه بعد ذلك .

                                                            (الثانية) أن يكون كلب ماشية أي معد لحفظها وجمع الماشية مواش والمراد هنا الإبل والبقر أو الغنم والأكثر استعمالها في الغنم وفي رواية أبي الحكم عن ابن عمر (غنم) بدل ماشية وروى الترمذي عن عطاء بن أبي رباح أنه رخص في إمساك الكلب وإن كان للرجل شاة واحدة وفي رواية أخرى، اقتناؤه لخصلة ثالثة وهو حفظ الزرع والبساتين ونحوها. وقد نقله ابن عمر وابنه سالم عن رواية أبي هريرة وتقدم قول سالم ، وكان أي أبو هريرة صاحب حرث وسبقه إلى [ ص: 28 ] ذلك أبوه ففي صحيح مسلم فقيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول أو كلب زرع فقال ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا قال النووي في شرح مسلم : قال العلماء ليس هذا توهينا لرواية أبي هريرة ولا شكا فيها بل معناه أنه لما كان صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك وحفظه وأتقنه والعادة أن المبتلى بشيء يتقنه ما لا يتقنه غيره ويتعرف من أحكامه ما لا يتعرفه غيره. وتقدم من صحيح مسلم من طريق أبي الحكم عن ابن عمر ذكر الزرع أيضا في الحديث الذي رواه هو. قال النووي : فيحتمل أن ابن عمر لما سمعها من أبي هريرة وتحققها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه بعد ذلك وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها ويحتمل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فرواها ونسيها في وقت فتركها. والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردا بهذه الزيادة بل وافقه جماعة من الصحابة في روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو انفرد بها لكانت مقبولة مرضية مكرمة انتهى.

                                                            وقال أصحابنا وغيرهم: يجوز اقتناء الكلب لهذه المنافع الثلاثة وهي الاصطياد به وحفظ الماشية والزرع واختلفوا في اقتنائه لخصلة رابعة وهي اقتناؤه لحفظ الدور والدروب ونحوها فقال بعض أصحابنا: لا يجوز لهذا الحديث وغيره فإنه مصرح بالنهي إلا لأحد هذه الأمور الثلاثة، وقال أكثرهم وهو الأصح: يجوز قياسا على الثلاثة عملا بالعلة المفهومة من الحديث وهي الحاجة .



                                                            (الثالثة) لو أراد اتخاذ كلب ليصطاد به إذا أراد، ولا يصطاد به في الحال أو ليحفظ الزرع أو الماشية إذا صار له ذلك ففيه لأصحابنا وجهان أصحهما الجواز وهو مقتضى قوله في الحديث إلا كلب صيد فإنه بهذه الصفة وإن لم يصطد به في الحال .



                                                            (الرابعة) استدل به على جواز اقتناء كلب الصيد ونحوه وإن لم يرد الاصطياد به في الحال ولا فيما بعد ؛ لأنه صدق أنه اقتنى كلب صيد، وقد حكى بعض أصحابنا فيه وجهين لكن الأصح تحريمه وظاهر كلام الجمهور القطع به ؛ لأنه اقتناه لغير حاجة فأشبه غيره من الكلاب، ومعنى الحديث إلا كلبا يصطاد به .



                                                            (الخامسة) فلو اقتنى كلبا لا يحسن الصيد لكن يقصد تعليمه ذلك فإن كان كبيرا جاز وإن كان جروا يربى ثم يعلم ففيه لأصحابنا وجهان أصحهما: الجواز أيضا واستدل له [ ص: 29 ] بالحديث ؛ لأن هذا كلب صيد في المآل ولو منع من ذلك لتعذر اتخاذ كلاب الصيد فإنه لا يتأتى تعليمها إلا مع اقتنائها .



                                                            (السادسة): استثنى ابن حزم من جواز اقتناء الكلب للصيد ونحوه ما إذا كان أسود بهيما أو ذا نقطتين ؛ لأنه مأمور بقتله فلا يحل اقتناؤه ولا تعليمه ولا الاصطياد به وسيأتي الكلام في حل قتله في الحديث الذي بعده ثم حكى ابن حزم عن قتادة والحسن البصري وإبراهيم النخعي كراهة صيد الكلب الأسود البهيم قال: وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه قال أحمد ما أعلم أحدا رخص في أكل ما قتل الكلب الأسود من الصيد انتهى، وبه قال بعض الشافعية .



                                                            (السابعة) استدل به على تحريم اقتناء الكلب لغير المنافع المتقدم ذكرها وهو مذهب الشافعي ؛ لا خلاف في ذلك عند أصحابه ولا يلزم من تحريم اقتنائها قتلها ، وسيأتي الكلام على القتل في الحديث الذي بعده . ووجه التحريم ظاهر ؛ لأن نقصان الأجر لا يكون إلا لمعصية ارتكبها وحكى الروياني من أصحابنا عن أبي حنيفة جوازه واقتصر ابن عبد البر على الكراهة ثم قال إن هذا الحديث دليل على أن اقتناءها غير محرم ؛ لأن ما كان محرما اتخاذه واقتناؤه كان محرما على كل حال نقص من الأجر أو لم ينقص، وليس هذا سبيل النهي عن المحرمات، ولكن هذا اللفظ يدل - والله أعلم - على الكراهة دون التحريم انتهى.

                                                            وهو عجيب ؛ لأن استدلالنا على التحريم بالنقصان من الأجر ؛ لأن ذلك يدل على ارتكاب محرم أحبط ثواب بعض الأعمال كما كان عدم قبول صلاة شارب الخمر والعبد الآبق وآتي العراف والكاهن يدل على تحريم هذه الأعمال فإن تحريمها هو الذي أحبط ثوابها بخلاف عدم قبول صلاة المحدث فإنه ليس لاقتران معصية ؛ لأن الحدث ليس بمعصية وإنما هو لفقد شرط وهو الطهارة ، وقد تقدم هذا المعنى والله أعلم.

                                                            (الثامنة) في الرواية الأولى من أجره وفي الثانية من عمله والتقدير من أجر عمله وفي أكثر الروايات قيراطان، وفي بعضها قيراط والقيراط مقدار معلوم عند الله - تعالى - والمراد نقص جزء من عمله والجمع بين اختلاف الروايات في القيراط والقيراطين من أوجه:

                                                            (أحدها) أنه يحتمل أنه في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر أو لمعنى فيهما.

                                                            (الثاني) [ ص: 30 ] أن ذلك يختلف باختلاف المواضع فيكون القيراطان في المدينة خاصة لزيادة فضلها والقيراط في غيرها من المدائن أو القيراطان في المدائن ونحوها من القرى والقيراط في البوادي.

                                                            (الثالث) أنه ذكر القيراط أولا ثم زاد التغليظ فذكر القيراطين لما لم ينتهوا عن اتخاذها. ذكره ابن بطال .

                                                            (التاسعة) قال الروياني من أصحابنا في البحر: اختلفوا في المراد بما ينقص منه فقيل ينقص مما مضى من عمله وقيل من مستقبله قال واختلفوا في محل نقص القيراطين فقيل ينقص قيراط من عمل النهار وقيراط من عمل الليل وقيل قيراط من عمل الفرض وقيراط من عمل النفل .



                                                            (العاشرة): اختلف العلماء في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب على أقوال:

                                                            (أحدها) أن ذلك لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم وقصده إياهم روي ذلك عن الحسن البصري وغيره.

                                                            (ثانيها) قال ابن عبد البر هذا محمول عندي - والله أعلم - على أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا إذا ولغت فيه لا يكاد يقام به ولا يكاد يتحفظ منه ؛ لأن متخذها لا يسلم من ولوغها في إنائه ولا يكاد يؤدي حق الله في عبادته في الغسلات من ذلك الولوغ ويدخل عليه الإثم والعصيان فيكون ذلك نقصا في أجره يدخل السيئات عليه.

                                                            (ثالثها) ثم قال ابن عبد البر ، وقد يكون ذلك من أجل أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب وذكره غيره على سبيل الجزم.

                                                            (رابعها): ثم قال ابن عبد البر ، وقد يكون ذلك بذهاب أجره في إحسانه إلى الكلب ؛ لأن في الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة أجرا لكن الإحسان إلى الكلب ينقص الأجر فيه أو يتلفه ما يلحق مقتنيه من السيئات بترك أدائه لتلك العبادات في التحفظ من ولوغه والتهاون بالغسلات منه ونحو ذلك مثل ترويع المسلم وشبهه انتهى.

                                                            وهو قريب من الثاني إلا أنه عين أن الذي يبطل أجره من عمله هو الإحسان إلى الكلب دون بقية حسناته والله أعلم.

                                                            (خامسها) أن ذلك عقوبة له لاتخاذه ما نهى عن اتخاذه، وعصيانه بذلك.

                                                            (الحادية عشرة) قوله (أو ضاري) كذا هو بالياء في أصلنا، وكذا نقله النووي عن معظم نسخ صحيح مسلم قال في بعضها ضاريا بالألف بعد الياء منصوبا (قلت): وهو الذي في أصلنا من صحيح مسلم وذكر القاضي عياض أنه [ ص: 31 ] روى ضاري بالياء وضار بحذفها وضاريا فالأول معطوف على ماشيته، ويكون من إضافة الموصوف إلى صفته كماء البارد، ومسجد الجامع، ومنه قوله تعالى بجانب الغربي و (كدار الآخرة) ويكون ثبوت الياء في ضاري على اللغة القليلة في إثباتها في المنقوص من غير ألف ولام، والمشهور حذفها وقيل إن لفظة ضار هنا للرجل الصائد صاحب الكلاب المعتاد للصيد فسماه ضاريا استعارة كما في الرواية الأخرى إلا كلب ماشية أو كلب صائد وفي رواية عبد الله بن دينار إلا كلب ضارية . وتقديره إلا كلب ذي كلاب ضارية والضاري هو المعلم للصيد المعتاد له يقال منه ضرى الكلب يضري كشرب يشرب ضرا وضراوة وأضراه صاحبه أي عوده ذلك، وقد ضرى بالصيد إذا لهج به، ومنه قول عمر رضي الله عنه إن للحم ضراوة كضراوة الخمر .




                                                            الخدمات العلمية