الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وقال ابن السمعاني : أما المعارضة في حكم الفرع فالصحيح أنه إذا ذكر المعلل علة في إثبات حكم الفرع ونفي حكمه ، فيعارضه خصمه بعلة أخرى توجب ما توجبه علة المعلل ، فتعارض العلتان فتمنعان من العمل إلا بترجيح إحداهما على الأخرى . وقد اختلف في قبول هذا الاعتراض : فرده بعضهم لا سيما المتأخرون من الجدليين ، محتجين بأن دلالة المستدل على ما ادعاه قد تمت . قال الهندي : وهو ظاهر إلا فيما إذا كانت المعارضة بفوات الشرط فإنا نبين عدم تمام دلالته إذ ذاك ، وإذا تمت دلالته فقد وفى بما التزم في الاستدلال ، فهو بعد ذلك مخير : إن شاء سمع المعارضة ، وإن شاء لم يسمع - كاستدلال مستأنف .

                                                      وأيضا فإن حق المعترض أن يكون هادما لا بانيا ، والمعارضة في حكم الفرع بناء لا هدم ، بخلاف المعارضة في الأصل ، فإن حاصلها يرجع إلى منع المقدمة ، وهي كون الحكم معللا بما ذكر من الوصف فلا يلزم من قبولها ثم قبولها هنا . وقبله الأكثرون ، لقيام الإجماع على أن الدليل مع وجود المعارض عطل ، ولأن المستدل عند ورودها متحكم ، والتحكم باطل إجماعا ، ولأنه طريق للهدم ، وقد يتعين طريقا للهدم ، فلو لم يقبل لبطل مقصود المناظرة والبحث والاجتهاد ، ولأنها إنما تكون غصبا لمنصب التعليل أن لو ذكرها [ ص: 423 ] المعترض لإثبات مذهبه . وهو لا يذكرها لذلك ، لاتفاق دليل خصمه . وهذا القول صححه الغزالي في " المنخول " وقد رأيت ابن برهان في " الأوسط " نقل عنه إبطال المعارضة ثم رأيت إلكيا الطبري سبقه إلى نقل ذلك عنه فقال في كتاب " التلويح " : صار الغزالي إلى بطلان المعارضة على ما سمعنا الإمام ينقله عنه وكان الحامل له على ذلك امتناع التناقض في أدلة الشرع ، فإذا اعترف السائل بصحة علة المعلل واستقلالها بالحكم ، والمسئول ينكر صحة تعليله . وإن هو أراد إظهاره فقد تناقض وقال بتعارض النصوص ، ولأن حق السائل أن يكون هادما غير بان ، والمعارضة تقتضي البناء إن كان الترجيح لتعليل السائل أو ساقطة إن كان الترجيح لعلة المسئول ، فلا يخلو من طرفي نقيض ووجهي فساد .

                                                      ونحن نقول : السائل لم يقصد البناء ، وإنما يقصد الهدم ، فإن مقصوده إعانة المسئول على إتمام غرضه بإيضاح الترجيح ، ولا ينال هذه إلا بالمعارضة . ( قال ) : ولا خلاف أن المعلل لو استدل بظاهر فللسائل أن يؤول ويعتضد بالقياس ، وإذا صحت المعارضة فالسائل لا يرجح ، فإنه يكون بانيا ، هذا إذا أمكنه قطع الترجيح عن الدليل . فأما إذا كان الدليل في وضعه أرجح فلا وجه لمنعه على قول من قبل المعارضة ، فإنه ربما لا يجد غيره . فإن رجح المسئول مكن السائل من معارضة الترجيح ( انتهى ) . ثم لا يجب على المعترض أن يبين أن ما عارض به مساو لدليل المستدل ، بل يكفي منه بيان مطلق المعارض . وهذا بخلاف المستدل فإنه لا يكتفى منه في دفعها إلا ببيان أن دليله راجح على ما عارض به المعترض ، لأن المستدل مدع لاستقلال دليله بالحكم ، والمعارض منكر له ، والمنكر يكفيه مطلق الإنكار ، بخلاف المدعي . [ ص: 424 ] وإذا تمت المعارضة من السائل فهل ينقطع المستدل أم يسمع منه الترجيح ؟ فقيل : ينقطع . والصحيح أنه ينقطع إن عجز عن ترجيح دليله . وجوابه بالقدح بما يرد على ذلك إن كان من جهة المستدل .

                                                      واختلفوا في مسألتين :

                                                      إحداهما : في دفعه بالترجيح بمرجح أقوى من مرجحه : فقيل : يمنع ، لأنه وإن كان مرجوحا فلا يخرج عن كونه اعتراضا والمختار - ورجحه المحققون - جوازه لأنه موطن تعارض ، وقد لا يجد السائل غيره مرجحا . وقضية كلام إمام الحرمين أن السائل إذا عارض المستدل بترجيح أقوى ، وهو قادر على ترجيح مساو فقد تعدى . وليس كذلك ، بل له المعارضة بالأقوى مع وجود المساوي ، لأنه لم يذكر الأقوى من جهة كونه أقوى ، بل من جهة كونه معارضا ، ومزية القوة مصادفة . وقال ابن المنير : الأولى أن يذكر الأقوى ، لأنه إذا ساغ له الترجيح المساوي فالأقوى أولى . وفيه لطيفة ، وهي أنه يوقف المستدل عن نوبة أخرى من الترجيح ، لأنه قد اختلف مثلها ، فيحتاج المستدل حينئذ إلى ترجيحين أو ترجيح أقوى من ذلك الأقوى فيضيق عليه نطاق الكلام وهو غرض المناظرة وفي ذكر الأقوى اختصار ( انتهى ) . ولا خلاف أنه لو قابل ترجيح المستدل لا يقبل الاستغناء به عن أحدهما ، فإن في الواحد كفاية ، والزيادة توجب الإثبات ، لأن ذلك غير منصبه .

                                                      الثانية : هل يقبل معارضة المعارضة بدليل مستقل ؟ اختلفوا على مذاهب :

                                                      أحدها : نعم ، لأنه دليل كالأول ، فجاز أن يعارض . وعلى هذا يتساقطان ويسلم الدليل الأول من المعارض ، قال المقترح : وكلام إمام الحرمين في تعارض النصين يقتضي اختياره . [ ص: 425 ]

                                                      والثاني : لا يقبل وإن قبلنا أصل المعارضة ، لانتشار الكلام وأدائه إلى الانتقال ، وإذا قبلنا ترجيح المستدل لدليله على ما عارض به السائل ، فهل يشترط أن يكون منشأ الترجيح مذكورا في الدليل ؟ قيل : يجب ، لأنه لو تركه أولا لكان ذاكرا لبعض الدليل . وقيل : لا يجب ، لأن مراتب المعارضة لا يعرفها المستدل في بدء استدلاله ، فيؤدي إلى المشقة ، بخلاف الاحتراز لدفع النقض ، بدليل أنه إذا تعارض النصان سمع الترجيح من المستدل بالاتفاق ، مع أنه لا يشترط أن يكون في نص المستدل ما يشير إلى الترجيح .

                                                      والثالث : وهو اختيار الآمدي التفصيل : فإن كان التفصيل وصفا من أوصاف العلة تعين ذكره ، وإلا فلا ، لأنه قد أتى بكمال الدليل ، والترجيح أجنبي عنه .

                                                      تنبيه : قسم ابن السمعاني المعارضة إلى ما تكون بعلة أخرى ، وإلى ما هي بعلة المعلل بعينها ، فالمعارضة بعلة أخرى تارة تكون في حكم الفرع ، وتارة في علة الأصل - وقد سبقا - وأما المعارضة بعلل المعلل فتسمى ( قلبا ) وقد سبق حكمه .

                                                      وقال إلكيا الطبري : قسم الجدليون المعارضة إلى ثلاثة أقسام : معارضة الدعوى بالدعوى والخبر بالخبر ، والقياس بالقياس : - فأما معارضة الدعوى بالدعوى فلا معنى لها إلا على تقدير وقع التشنيع . - وأما معارضة الخبر بالخبر فصحيحة ، مثل أن يسأل عن قضاء الفوائت في الأوقات المنهي عنها ، فيقول : لأنه عليه الصلاة والسلام قال : [ ص: 426 ] { من نام عن صلاة أو نسيها } الحديث ، فيرجع الكلام بعده إلى الترجيح . - وأما معارضة المعنى بالمعنى فعلى قسمين : ( أحدهما ) بين أصلين مختلفين . و ( الثاني ) من أصل واحد . ثم يتنوع نوعين : ( أحدهما ) في ضد حكمه فيكون معارضة صحيحة و ( الثاني ) في عين حكمه ولكن يتعذر الجمع بينهما . - فما كان بين أصلين مختلفين فهو الأصل في المعارضات . مثاله : طهارة الوضوء حكمية فتفتقر إلى النية ، قياسا على التيمم . فيقول المعارض : طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية ، قياسا على إزالة النجاسة فلا بد عند ذلك من الترجيح . - وأما ما كان من أصل واحد على الضد فضربان : ( أحدهما ) أن يجعل الأصل الواحد بينهما معنيين مختلفين . و ( الثاني ) أن يجعل نفس ما علل به معنى له . فالأول كقوله : لما كان عدد الأقراء معتبرا بالمرأة وجب أن يعتبر بها عدد الطلاق ، لأن البينونة متعلقة بها . فيعارضه بأنه يجب أن يعتبر بالفاعل قياسا على العدة . وفي الثاني يقول : نفس هذا المعنى يدل على أن الاعتبار بالفاعل ، كالعدة . [ ص: 427 ] قال : وأما معارضة الفاسد بالفاسد فهل تجوز ؟ إن أمكنه إيضاح الفساد فلا يمنع منها . ومثلها بقول بعضهم : لا يصير مفرطا بتأخير الزكاة ، فلا يلزم إخراجها إذا تلف المال أو مات . فيقال : ولا يجب عليه الزكاة بحال من حيث إنه بتأخيرها ولا تركها أصلا

                                                      ( قال ) : وقد يعارض المحال بالمحال : كقول الحنفي : ما أدركه المأموم من صلاة الإمام فهو آخر صلاته . فيقال له : لو جاز أن يكون آخر بلا أول جاز أن يكون أول بلا آخر ، ولو جاز أن يكون ماء لا نجس ولا طاهر جاز أن يكون ماء نجس وطاهر بناء على أن القابل للضدين لا يخلو عن أحدهما .

                                                      ( قال ) : وهذا النوع ليس بمعارضة حقيقة ولكن قصد به امتحان المذاهب . ( انتهى ) . ومسألة معارضة الدعوى بالدعوى سبقت في كلام الأستاذ أبي منصور وحكاية الخلاف فيها . وصرح الصيرفي في كتاب " الدلائل والأعلام " بمنعها ، لعدم فائدتها ، إذ لا يلزم أحد بدعوى الآخر . قال الإمام : إلا أن يكون قد أخرج دعواه مخرج الحجة فيعارض بمثلها . كقول المالكي : المستحاضة تستظهر ثلاثة أيام . فقيل له : فما الفصل بينك وبين من قال : لا تستظهر ، أو تستظهر بيومين أو أكثر أو أقل ؟ فإن لم يكن هذا فالقول ساقط .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية