الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 564 ] [ ص: 565 ] [ ص: 566 ] [ ص: 567 ] الباب الثاني :

          في حكم سابه وشانئه ومتنقصه ومؤذيه ، وعقوبته ، وذكر استتابته ، ووراثته

          الفصل الأول : في حكم سابه وشانئه - صلى الله عليه وسلم -

          قد قدمنا ما هو سب ، وأذى في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، وذكرنا إجماع العلماء على قتل فاعل ذلك وقائله ، أو تخيير الإمام في قتله أو صلبه على ما ذكرناه ، وقررنا الحجج عليه .

          وبعد فاعلم أن مشهور مذهب مالك ، وأصحابه ، وقول السلف ، وجمهور العلماء قتله حدا لا كفرا إن أظهر التوبة منه ، ولهذا لا تقبل عندهم توبته ، ولا تنفعه استقالته ، ولا فيأته كما قدمناه قبل ، وحكمه حكم الزنديق ومسر الكفر في هذا القول ، وسواء كانت توبته على هذا بعد القدرة عليه ، والشهادة على قوله ، أو جاء تائبا من قبل نفسه ، لأنه حد لا تسقطه التوبة كسائر الحدود .

          قال الشيخ أبو الحسن القابسي - رحمه الله - : إذا أقر بالسب ، وتاب منه ، وأظهر التوبة قتل بالسب ، لأنه هو حده . وقال أبو محمد بن أبي زيد في مثله ، وأما ما بينه ، وبين الله فتوبته تنفعه .

          وقال ابن سحنون : من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموحدين ، ثم تاب عن ذلك لم تزل توبته عنه القتل .

          وكذلك قد اختلف في الزنديق إذا جاء تائبا ، فحكى القاضي أبو الحسن بن القصار في ذلك قولين :

          قال : من شيوخنا من قال : اقتله بإقراره ، لأنه كان يقدر على ستر نفسه ، فلما اعترف خفنا أنه خشي الظهور عليه فبادر لذلك .

          ومنهم من قال : أقبل توبته ، لأني أستدل على صحتها بمجيئه ، فكأننا وقفنا على باطنه ، بخلاف من أسرته البينة .

          قال القاضي أبو الفضل : وهذا قول أصبغ ، ومسألة ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى ، لا يتصور فيها الخلاف على الأصل المتقدم ، لأنه حق متعلق للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولأمته بسبه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين .

          والزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك والليث وإسحاق وأحمد ، لا تقبل توبته .

          وعند الشافعي تقبل .

          واختلف فيه عن أبي حنيفة [ ص: 568 ] وأبي يوسف .

          وحكى ابن المنذر ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : يستتاب .

          قال محمد بن سحنون : ولم يزل القتل عن المسلم بالتوبة من سبه - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه لم ينتقل من دين إلى غيره ، وإنما فعل شيئا حده عندنا القتل لا عفو فيه لأحد ، كالزنديق ، لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر .

          وقال القاضي أبو محمد بن نصر محتجا لسقوط اعتبار توبته : والفرق بينه وبين من سب الله - تعالى - على مشهور القول باستتابته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر ، والبشر جنس تلحقه المعرة إلا من أكرمه الله بنبوته ، والبارئ - تعالى - منزه عن جميع المعايب قطعا ، وليس من جنس تلحق المعرة بجنسه ، وليس سبه - صلى الله عليه وسلم - كالارتداد المقبول فيه التوبة ، لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد ، لا حق فيه لغيره من الآدميين ، فقبلت توبته . ومن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلق فيه حق لآدمي ، فكان كالمرتد يقتل حين ارتداده أو يقذف ، فإن توبته لا تسقط عنه حد القتل ، والقذف .

          وأيضا فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من زنا وسرقة وغيرها ، ولم يقتل ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكفره ، لكن لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته ، وزوال المعرة به ، وذلك لا تسقطه التوبة .

          قال القاضي أبو الفضل : يريد ، والله أعلم : لأن سبه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر ، ولكن بمعنى الإزراء ، والاستخفاف ، أو لأن بتوبته وإظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر ظاهرا ، والله أعلم بسريرته ، وبقي حكم السب عليه .

          وقال أبو عمران القابسي : من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ارتد عن الإسلام قتل ، ولم يستتب ، لأن السب من حقوق الآدميين التي لا تسقط عن المرتد . وكلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله ، حدا لا كفرا ، وهو يحتاج إلى تفصيل .

          وأما على رواية الوليد بن مسلم عن مالك ، ومن وافقه على ذلك ممن ذكرناه ، وقال به من أهل العلم فقد صرحوا أنه ردة ، قالوا : ويستتاب منها ، فإن تاب نكل ، وإن أبى قتل ، فحكم له بحكم المرتد مطلقا في هذا الوجه .

          والوجه الأول : أشهر ، وأظهر لما قدمناه ، ونحن نبسط الكلام فيه ، فنقول :

          من لم يره ردة فهو يوجب القتل فيه حدا ، وإنما نقول ذلك مع فصلين : إما مع إنكاره ما [ ص: 569 ] شهد عليه به ، أو إظهاره الإقلاع والتوبة عنه ، فنقتله حدا لثبات كلمة الكفر عليه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتحقيره ما عظم الله من حقه ، وأجرينا حكمه في ميراثه ، وغير ذلك حكم الزنديق إذا ظهر عليه ، وأنكر أو تاب .

          فإن قيل : فكيف تثبتون عليه الكفر ، ويشهد عليه بكلمة الكفر ، ولا تحكمون عليه بحكمه من الاستتابة وتوابعها !

          قلنا : نحن وإن أثبتنا له حكم الكافر فلا نقطع عليه بذلك ، لإقراره بالتوحيد ، والنبوة وإنكاره ما شهد به عليه ، أو زعمه أن ذلك كان منه وهلا ومعصية ، وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه ، ولا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر على بعض الأشخاص ، وإن لم تثبت له خصائصه ، كقتل تارك الصلاة .

          وأما من علم أنه سبه معتقدا استحلاله فلا شك في كفره بذلك .

          وكذلك إن كان سبه في نفسه كفر ، كتكذيبه أو تكفيره ، ونحوه ، فهذا مما لا إشكال فيه ، ويقتل ، وإن تاب منه ، لأنا لا نقبل توبته ، ونقتله بعد التوبة حدا ؛ لقوله ومتقدم كفره ، وأمره بعد إلى الله المطلع على صحة إقلاعه ، العالم بسره .

          وكذلك من لم يظهر التوبة ، واعترف بما شهد به عليه ، وصمم عليه فهذا كافر بقوله ، وباستحلاله هتك حرمة الله وحرمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - يقتل كافرا بلا خلاف .

          فعلى هذه التفصيلات خذ كلام العلماء ، ونزل مختلف عباراتهم في الاحتجاج عليها ، وأجر اختلافهم في الموارثة وغيرها على ترتيبها تتضح لك مقاصدهم إن شاء الله - تعالى - .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية