الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الرابع : استصحاب الإجماع في محل الخلاف ; وهو غير صحيح في محل الخلاف

              ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين :

              مسألة : لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء ، ومثاله المتيمم ، إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة ، لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها ، فطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث ، فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة .

              وهذا فاسد ; لأن هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال : أنا ناف ولا دليل على النافي ، وإما أن يظن أنه أقام دليلا . فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي ، وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ ، فإنا نقول : إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه ، فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع ، فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود ، فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص ، وإن كان ذلك بإجماع فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم ، أما حال الوجود فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الخلاف .

              ولو كان الإجماع شاملا [ ص: 161 ] حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع ; لأن الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الماء ، فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة ، فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال ، وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، وهاهنا انعقد الإجماع بشرط العدم وانتفى الإجماع عند الوجود أيضا فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ، والإجماع يضاده نفس الخلاف إذ لا إجماع مع الخلاف بخلاف العموم والنص ودليل العقل فإن الخلاف لا يضاده ، فإن المخالف مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف ، إذ قوله صلى الله عليه وسلم : { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه فيقول : أسلم شمول الصيغة لكني أخصصه بدليل ، فعليه الدليل .

              وهاهنا المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف ، إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل ، فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها . فإن قيل : الإجماع يحرم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف ؟ قلنا : هذا الخلاف غير محرم بالإجماع ، وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع ، لأن الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل .

              فإن قيل : فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه . قلنا : فلينظر في ذلك الدليل أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا ؟ فإن كان هو الإجماع فالإجماع مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند الوجود . فإن قيل : بم تنكرون على من يقول : الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود قاطع فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل ، كما أنه إذا أثبت موت زيد وثبت بناء دار أو بلد كان دوامه بنفسه لا بسبب ؟ قلنا : هذا وهم باطل ، لأن كل ما ثبت جاز أن يدوم وأن لا يدوم فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ، ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطل الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته ، كما إذا أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخول الدار ولم تدل العادة على دوام هذه الأحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الأحوال أصلا ، فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود فيفتقر دوامها إلى دليل آخر .

              فإن قيل : ليس هو مأمورا بالشروع فقط بل بالشروع مع الإتمام . قلنا : نعم هو مأمور بالشروع مع العدم وبالإتمام مع العدم ، أما مع الوجود فهو محل الخلاف فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالإتمام ؟ فإن قيل ، لأنه منهي عن إبطال العمل وفي استعمال الماء إبطال العمل . قلنا : هذا الأمر انجرار إلى ما جررناكم إليه وانقياد للحاجة إلى الدليل ، وهذا الدليل ، وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الأصولي .

              ثم هو ضعيف ، لأنه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله ، وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل .

              فإن قيل : الأصل أنه لا يجب شيء [ ص: 162 ] بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين . قلنا : هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه ، وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه ، فلا يرتفع به اليقين .

              ثم نقول : من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن ، كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع ؟ فالمسائل فيه متعارضة ، وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة ورضيعة بأجنبية وماء طاهر بماء نجس ، ومن نسي صلاة من خمس صلوات ، احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى : { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب .

              قلنا : ، لأنهم لم يستصحبوا الإجماع بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه ، إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا ، وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية