الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وقد ظن بعض المتأخرين : أن معنى قوله { فمن نفسك } أي أفمن نفسك ؟ وأنه استفهام على سبيل الإنكار ومعنى كلامه : أن الحسنات والسيئات كلها من الله لا من نفسك . وهذا القول يباين معنى الآية . فإن الآية بينت أن السيئات من نفس الإنسان . أي بذنوبه . وهؤلاء يقولون : ليست السيئات من نفسه . [ ص: 422 ]

                وممن ذكر ذلك : أبو بكر بن فورك . فإنه قال : معناه : أفمن نفسك ؟ يدل عليه قول الشاعر :

                ثم قالوا : تحبها ؟ قلت : بهرا عدد الرمل والحصى والتراب

                قلت : وإضمار الاستفهام - إذا دل عليه الكلام - لا يقتضي جواز إضماره في الخبر المخصوص من غير دلالة . فإن هذا يناقض المقصود . ويستلزم أن كل من أراد أن ينفي ما أخبر الله به يقدر أن ينفيه بأن يقدر في خبره استفهاما . ويجعله استفهام إنكار . وهذا من جهة العربية نظير ما زعمه بعضهم في قول إبراهيم عليه السلام " هذا ربي " أهذا ربي ؟ قال ابن الأنباري : هذا القول شاذ . لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذا كان فارقا بين الإخبار والاستخبار .

                وهؤلاء استشهدوا بقوله { أفإن مت فهم الخالدون } . وهذا لا حجة فيه . لأنه قد تقدم الاستفهام في أول الجملة في الجملة الشرطية { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } فلم يحتج إلى ذكره ثانية . بل ذكره يفسد الكلام . ومثله قوله { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } وقوله { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } وقوله { أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } وهذا من فصيح الكلام وبليغه . واستشهدوا بقوله :

                لعمرك لا أدري وإن كنت داريا     بسبع رمين الجمر أم بثمان ؟

                وقوله :

                كذبتك عينك أم رأيت بواسط     غلس الظلام من الرباب خيالا ؟

                تقديره : أكذبتك عينك ؟ . وهذا لا حجة فيه . لأن قوله فيما بعد " أم بثمان " و " أم رأيت " يدل على الألف المحذوفة في البيت الأول .

                وأما الثاني : فإن كانت " أم " هي المتصلة فكذلك . وإن كانت هي المنفصلة . فالخبر على بابه . وهؤلاء مقصودهم : أن النفس لا تأثير لها في وجود السيئات . [ ص: 424 ]

                وليست سببا فيها . بل قد يقولون : إن المعاصي علامة محضة على العقوبة لاقترانها بها . لا أنها سبب لها . وهذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وللعقل . والقرآن يبين في غير موضع : أن الله لم يهلك أحدا ولم يعذبه إلا بذنب .

                فقال هنا { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } وقال لهم في شأن أحد { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقال تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } وقال تعالى في سورة الشورى أيضا { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } .

                وقال تعالى { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون } وقال تعالى { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } { ذكرى وما كنا ظالمين } وقال تعالى { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } وقال تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } وقال تعالى { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } وقال تعالى { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير } وقال تعالى في سورة القلم عن أهل الجنة الذين ضرب بهم المثل لما أهلكها بذلك [ ص: 425 ] العذاب { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } وقال تعالى { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } .

                وقال تعالى عن أهل سبأ { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم } - إلى قوله - { ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور } وقال تعالى { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } وقال تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وفي الحديث الصحيح الإلهي { يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيرا : فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك : فلا يلومن إلا نفسه } . وفي سيد الاستغفار { أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي } وقال تعالى { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون } . والحمد لله وحده وصلى الله على عبد الله ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم . ورضي الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية