الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فإن تابوا أي : فإن تابوا عن الشرك ، وهو الذي يحملهم على عداوتكم وقتالكم ، بأن دخلوا في الإسلام - وعنوانه العامالنطق بالشهادتين ، وكان يكتفى منهم بإحداهما - وأقاموا الصلاة المفروضة معكم كما تقيمونها في أوقاتها الخمسة ، وهي مظهر الإيمان ، وأكبر أركانه المطلوبة في كل يوم من الأيام ، ويتساوى في طلبها وجماعتها الغني والفقير ، والمأمور والأمير - وهي حق العبودية لله تعالى على عباده ، وأفضل مزك لأنفسهم يؤهلهم للقائه ، وأفعل مهذب لأخلاقهم بعدها للقيام بحقوق عباده إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [ ص: 152 ] ( 29 : 45 ) وآتوا الزكاة المفروضة في أموال الأغنياء للفقراء وللمصالح العامة ، وهي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام التي يقوم بها نظامه العام فخلوا سبيلهم فاتركوا لهم طريق حريتهم بالكف عن قتالهم إذا كانوا مقاتلين ، وعن حصرهم إن كانوا محصورين ، وعن رصد مسالكهم إلى البيت الحرام وغيره حيث يكونون مراقبين إن الله غفور رحيم يغفر لهم ما سبق من الشرك وأعماله ، ويرحمهم فيمن يرحم من عباده المؤمنين ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله .

                          والآية تفيد دلالة إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة على الإسلام ، وتوجب لمن يؤديهما حقوق المسلمين من حفظ دمه وماله إلا بما يوجبه عليه شرعه من جناية تقتضي حدا معلوما ، أو جريمة توجب تعزيرا أو تغريما .

                          واستدل بها بعض أئمة الفقه على كفر من يترك الصلاة ، ويمتنع عن أداء الزكاة ، وذلك أنها اشترطت في صحة إسلام المشركين ، وعصمة دمائهم مجموع الثلاثة الأشياء : ترك الشرك ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة . فإذا فقد شرط منها لم يتحقق الإسلام الذي يعصم دم المشرك المقاتل . ومفهوم الشرط من ضروريات اللغة ، ومراء بعض الجدليين من الأصوليين فيه مردود لا قيمة له . وقال بعضهم : بل يكفر تارك الصلاة دون مانع الزكاة لإمكان أخذها منه بالقهر ، ووجوب قتال مانعيها كما فعل أبو بكر .

                          وقد عززوا هذا الاستدلال بالأحاديث الصحيحة في معناها كحديث عبد الله بن عمر مرفوعا أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله رواه الشيخان ، وحديث أنس عند البخاري وأصحاب السنن الثلاثة : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ولم تذكر فيه الزكاة ، ولكن اشترط فيه أن يذبحوا ذبيحتنا ، والمراد لازمها وهو ترك ذبائح الشرك ، يعني إن ذبحوا وجب أن يذبحوا باسم الله دون اسم غيره من معبوداتهم التي كانوا يهلون بأسمائها عند الذبح .

                          وقد ورد معنى هذا الحديث في الصحاح والسنن بألفاظ مختلفة منها الاقتصار على الشهادتين كحديث أبي هريرة المتفق عليه ، بل صرحوا بتواتره كما في الجامع الصغير ، وهو : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفي بعضها الاقتصار على كلمة : " لا إله إلا الله " ومن ثم اختلف الفقهاء في المسألة ، فقال بعضهم : إن ترك الصلاة ، ومنع الزكاة [ ص: 153 ] من المعاصي لا يخرج تارك إحداهما ولا كلتيهما من الإسلام ، كما يقتضيه هذا الحديث ، وهو أصح من حديثي ابن عمر وأنس ، وقال الآخرون : إن فيهما زيادة على ما في حديث أبي هريرة وزيادة الثقة مقبولة ، والمطلق يحمل على المقيد .

                          والتحقيق أن المراد من الآية والأحاديث المختلفة الألفاظ في معناها واحد ، وهو ترك الكفر والدخول في الإسلام ، وللدخول في الإسلام صيغة وعنوان يكتفى به في أول الأمر ، ولا سيما مواقف القتال ، وهو النطق بالشهادتين . وقد يكتفى من المشرك بكلمة : " لا إله إلا الله " ؛ لأنهم كانوا ينكرونها ، وهي أول ما دعوا إليه ، بل أنكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على خالد بن الوليد قتل من قتل من بني جذيمة بعد قولهم " صبأنا " وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد " وذلك أنهم كانوا يعبرون بهذه الكلمة عن الإسلام فيقولون : صبأ فلان ، إذا أسلم ، والحديث في مواضع من صحيح البخاري وغيره .

                          وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في كل مقام ما يناسبه ، والمراد واحد يعلم من جملة أقواله علما قطعيا ، وهو ما ذكرنا من ترك الكفر ، والدخول في الإسلام الذي لا يتحقق بعد النطق بعنوانه من الشهادتين أو إحداهما في بعض المواضع إلا بإقامة أركانه ، والتزام أحكامه بقدر الاستطاعة ، بحيث إذا ترك المسلم شيئا منها بجهالة من ثورة غضب أو ثورة شهوة أو كسل تاب إلى الله تعالى واستغفره .

                          ومن المعلوم أن اليهود من أهل الكتاب كانوا يقولون : " لا إله إلا الله " فالنطق بها وحدها من أحدهم لا يدل على قبول الإسلام كما يدل قول أحد مشركي العرب لها ، ووجدت طائفة منهم كانت تقول : إن محمدا رسول الله إلى العرب وحدهم ، وقد اتفق علماؤنا بحق على أن من قال منهم " لا إله إلا الله محمد رسول الله " لا يعتد بإسلامه إلا إذا اعترف بعموم رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ( 34 : 28 ) وما في معناه .

                          فالإسلام هو الإذعان العملي لما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمر الدين فعلا كان أو تركا . ولا يكون الإذعان بالعمل إسلاما صحيحا مقبولا عند الله تعالى إلا إذا كان إذعانا نفسيا وجدانيا يبعثه الإيمان بصحة رسالته ، فإن المنافقين كانوا يقولون للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : نشهد إنك لرسول الله ، ويصلون ويزكون ويجاهدون والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( 63 . 1 ) ومتى كان الإيمان يقينيا ، كان الإذعان نفسيا وجدانيا ، وتبعه العمل بالضرورة في جملة التكاليف وعامة الأوقات . ولا ينافيه ترك واجب في بعض الأوقات لصارف عارض ، أو فعل محظور لعارض غالب . بحيث إذا زال السبب ندم المخالف . ولام نفسه ، واستغفر الله ، كما تقدم آنفا ، وذلك قوله تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [ ص: 154 ] ( 4 : 17 ) إلخ . فمن ترك صلاة أو أكثر لبعض الشواغل ، وهو يستشعر أنه مذنب ويرجو مغفرة الله تعالى وينوي القضاء ، لا يكون تركه هذا منافيا لإذعانه النفسي لأصل الأمر والنهي الذي يقتضيه الإيمان اليقيني . وإن كان هذا الرجاء مع عدم العذر يعد من الغرور كما سنبينه قريبا . وأما عدم المبالاة بالصلاة وغيرها من فرائض الإسلام وأوامره ، وعدم الانتهاء عن الفواحش والمنكرات من نواهيه - فإنه ينافي الإذعان الذي هو حقيقة الإسلام ، ولا يعقل إيمان صحيح بغير إسلام ، ولا إسلام صحيح ظاهره كباطنه بدون إيمان ، فهما متلازمان في حال الإمكان ، فمن نطق بالشهادتين من الكفار ، وأبى أن يلتزم فرائض الإسلام ، وترك محرماته القطعية مصرحا بذلك لا يعتد بإسلامه ، ومن لم يصرح ، ولم يفعل فهو مخادع قطعا ، وقد يظهر القيام ببعضها نفاقا ، كما ثبت عن بعض الإفرنج السياسين أنهم أظهروا الإسلام لدخول الحجاز أو اختبار المسلمين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية