الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 474 ] وأما الإنسان في نفسه فلا يحل له أن يفعل الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله فإن هذا لا يكون إلا مفسدة أو مفسدته راجحة على مصلحته وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة ; فإن الشارع حكيم فلو علم أن في ذلك مصلحة لم يحرمه لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب وتكون مصلحته أنه يتوب منه ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة وإنابة إلى الله تعالى ; فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها فإن الإنسان قد يحصل له [ بعدم ] الذنوب كبر وعجب وقسوة فإذا وقع في ذنب أذله ذلك وكسر قلبه ولين قلبه بما يحصل له من التوبة .

                ولهذا قال سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة وهذا هو الحكمة في ابتلاء من ابتلي بالذنوب من الأنبياء والصالحين وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة فليس للإنسان أن يعتقد حل ما يعلم أن الله حرمه قطعا وليس له أن يفعله قطعا فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه فإن تاب فصار بالتوبة خيرا مما كان قبله فهذا من رحمة الله به حين تاب عليه وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب وليس له أن يقول أنا أفعل ثم أتوب ولا يبيح الشارع له ذلك لأنه بمنزلة من يقول أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى أو آكل السم ثم أشرب الترياق . [ ص: 475 ] والشارع حكيم فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا ؟ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا ؟ وهل يتمكن من الشرب أم لا ؟ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة وبالعفو عما سلف من ذنوبه وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا في أن يذنب ويتوب ولو لم يفعل ذلك كان شرا منه لو لم يذنب ويتب ; لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان ; لأنه لا يدري أن ذلك خير له وليس ما يفعله خلقا - لعلمه وحكمته - يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه ويأمروا به . وقصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدرا كما يظنه بعض الناس ; بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر ; فإنه لم يفعل محرما مطلقا ; ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما .

                وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع . فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد فيحرمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل وهو مباح في الشرع [ ص: 476 ] باطنا وظاهرا لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته . وهذا لا يجيء في الأنواع الأربعة فإن الشرك والقول على الله بلا علم والفواحش ما ظهر منها وما بطن والظلم : لا يكون فيها شيء من المصلحة وقتل النفس أبيح في حال دون حال ; فليس من الأربعة .

                وكذلك إتلاف المال يباح في حال دون حال وكذلك الصبر على المجاعة ; ولذلك قال : { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقا في كل حال وفي كل شرع ; فعلى العبد أن يعبد الله مخلصا له الدين ويدعوه مخلصا له لا يسقط هذا عنه بحال ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل " لا إله إلا الله " . فهذا حق الله على كل عبد من عباده كما في الصحيحين من حديث { معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا } الحديث . فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه [ ص: 477 ] مخلصا له الدين ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره : كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالا من المشرك ; فلا بد من عبادة الله وحده وهذا واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد ألبتة وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره .

                ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان فمن لا ذنب له لا يدخل النار ولا يعذب الله بالنار أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار . فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات - والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال وهو العدل في حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين ولا يظلم الناس شيئا وما هو محرم على كل أحد في كل حال لا يباح منه شيء وهو الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم - وبين ما سوى ذلك .

                قال تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } فهذا محرم مطلقا لا يجوز منه شيء { وبالوالدين إحسانا } فهذا فيه تقييد . فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه . وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء . قوله : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } فهذا تحريم خاص { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } هذا مطلق { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده } هذا مقيد فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم ; لكن قد يقال : هذا أخذ وقربان بالتي هي أحسن إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } هذا مقيد بمن يستحق ذلك { وإذا قلتم فاعدلوا } هذا مطلق . { وبعهد الله أوفوا } فالوفاء واجب ; لكن يميز بين عهد الله وغيره ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به ويفعله ويأمر به ويفرق بين ما قدره الله فحصل بسببه خير وبين ما يؤمر به العبد فيحصل بسببه خير .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية