الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : قوله تعالى { : ولا تعتدوا } : فيها ثلاثة أوجه : أحدها : لا تقتلوا من لم يقاتل ، وعلى هذا تكون الآية منسوخة بقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } و { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن معنى قوله تعالى { : ولا تعتدوا } أي لا تقاتلوا على غير الدين ، كما [ ص: 148 ] قال تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } يعني دينا .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : ألا يقاتل إلا من قاتل ، وهم الرجال البالغون ; فأما النساء والولدان والرهبان فلا يقتلون ; وبذلك أمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام إلا أن يكون لهؤلاء إذاية .

                                                                                                                                                                                                              وفيه ست صور : الأولى : النساء : قال علماؤنا : لا تقتلوا النساء إلا أن يقاتلن ; لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهن ; خرجه البخاري ومسلم والأئمة ، وهذا ما لم يقاتلن ، فإن قاتلن قتلن .

                                                                                                                                                                                                              قال سحنون : في حالة المقاتلة .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح جواز قتلهن ، إذا قاتلن على الإطلاق في حالة المقاتلة وبعدها لعموم قوله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } وقوله تعالى { : واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وللمرأة آثار عظيمة في القتال ; منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، فقد كن يخرجن ناشرات شعورهن ، نادبات ، مثيرات للثأر ، معيرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 149 ] الثانية : الصبيان ; فلا يقتل الصبي لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذرية ، خرجه الأئمة كلهم ، فإن قاتل قتل حالة القتال ، فإذا زال القتال ففي سماع يحيى في العتبية يقتل ، وكذلك المرأة .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح أنه لا يقتل ، فإنه لا تكليف عليه ، وفي ثمانية أبي زيد : لا تقتل المرأة ولا الصبي إذا قاتلا ، وأخذا بعد ذلك أسيرين إلا أن يكونا قتلا ، وهذا لا يصح ; لأن القتل هاهنا ليس قصاصا ، وإنما هو ابتداء وحد ، والذي يقوي عندي قتل المرأة لما فيها من المنة ، والعفو عن الصبي لعفو الله سبحانه عنه في مسائل الذنوب .

                                                                                                                                                                                                              الثالثة : الرهبان : قال علماؤنا : لا يقتلون ولا يسترقون ; بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبي بكر رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان : " وستجد أقواما حبسوا أنفسهم فذرهم وما حبسوا أنفسهم له ، فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا " .

                                                                                                                                                                                                              ولو ترهبت المرأة روى أشهب عنه أنها لا تهاج ، وقال سحنون : لا يغير الترهب حكمها .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح عندي رواية أشهب ; لأنها داخلة تحت قوله : فذرهم وما حبسوا أنفسهم له .

                                                                                                                                                                                                              الرابعة : الزمنى : قال سحنون : يقتلون ، وقال ابن حبيب : لا يقتلون .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح عندي أن تعتبر أحوالهم ; فإن كان فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة ، وصاروا مالا على حالهم .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 150 ] الخامسة : الشيوخ : قال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون ، ورأيي قتلهم ; لما روى النسائي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اقتلوا الشيوخ المشركين واستحيوا شرخهم } .

                                                                                                                                                                                                              وهذا نص ، ويعضده عموم القرآن ووجود المعنى فيهم من المحاربة والقتال ، إلا أن يدخلهم التشيخ والكبر في حد الهرم والفند ، فتعود زمانة ، ويلحقون بالصورة الرابعة وهي الزمنى ، إلا أن يكون في الكل إذاية بالرأي ، ونكاية بالتدبير فيقتلون أجمعون ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              السادسة : العسفاء : وهم الأجراء والفلاحون ، وكل من هؤلاء حشوة .

                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف فيهم ; فقال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون ، وفي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان : " لا تقتلن عسيفا " .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح عندي قتلهم ; لأنهم إن لم يقاتلوا فهم ردء للمقاتلين ، وقد اتفق أكثر العلماء على أن الردء يحكم فيه بحكم المقاتل ، وخالفهم أبو حنيفة ; وقد مهدنا الدليل في المسألة ، وأوضحنا وجوب قتله في مسائل الخلاف بما فيه غنية ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية