الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة النافي للحكم هل يلزمه الدليل المثبت للحكم يحتاج للدليل بلا خلاف . وأما النافي فهل يلزمه الدليل على دعواه ؟ فيه مذاهب : أحدها : نعم ، وجزم به القفال والصيرفي ، واختاره ابن الصباغ وابن السمعاني ، ونقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ، ونقله ابن القطان عن أكثر أصحابنا ، وقال الماوردي : إنه مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء ، ولا يجوز نفي الحكم إلا بدليل ، كما لا يجوز إثباته إلا بدليل ، وحكاه الباجي عن الفقهاء والمتكلمين . وقال القاضي في التقريب " إنه الصحيح ، وبه قال الجمهور ، وقال صاحب المصادر " : إنه الصحيح ، [ ص: 33 ] لأنه مدع ، والبينة على المدعي ، ولقوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبينا ، فدل على أن كلا منهما عليه الدليل ، ولقوله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } في جواب : { لن يدخل الجنة } .

                                                      الثاني : أنه لا يجب ، وحكاه الماوردي وابن السمعاني وغيرهما عن داود وأهل الظاهر ، لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم ، فمن نفى الحكم فله أن يكتفي بالاستصحاب ، لكن ابن حزم في الأحكام " صحح الأول . والثالث : أن يلزمه في النفي العقلي دون الشرعي ، حكاه القاضي في التقريب " ، وابن فورك . الرابع : قال الغزالي : إنه المختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل ، والنفي فيه كالإثبات ، بخلاف الضروري ، وظن بعضهم انفراد الغزالي به ، وليس كذلك ففي الكافي " للخوارزمي حكاية المذاهب الثلاثة . ثم قال : ومن أصحابنا من قال : لا يخلو إما أن يكون النافي شاكا في نفيه أو نافيا له عن معرفة ، فإن كان شاكا فلا علم مع الشك ، وإن كان يدعي نفيه عن معرفة فتلك المعرفة إما أن تكون ضرورية أو استدلالية ، فإن كانت ضرورية فلا منازع في الضروريات ، وإن كانت استدلالية فلا بد من إبراز الدليل . انتهى . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : الخلاف فيما لا يعلم ثبوته وانتفاؤه بالضرورة ، وإنما يعلم بالدليل ، ويمكن إقامته عليه ، فأما ما يعلم حسا واضطرارا فلا سبيل إلى إقامة دليل على ثبوته ونفيه ، كعلم الإنسان بوجود نفسه وما يجدها عليه في أنه ليس في لجة بحر ولا على جناح طائر ونحوه . الخامس : إن نفي علم نفسه بأن يقول : لا أعلم ، فلا يلزمه الدليل ، وإن كان ينفي الحكم فيلزمه الدليل ، لأن نفي الحكم حكم ، كما أن الإثبات [ ص: 34 ] حكم

                                                      ، ومن نفى حكما أو أثبته احتاج إلى الدليل ، قال ابن برهان في الأوسط " : وهذا التفصيل هو الحق . والسادس : ذكره بعض الجدليين : إن ادعى لنفسه علما بالنفي فلا بد له من الدليل على ما يدعيه ، وإن نفى علمه فهو مخبر عن جهل نفسه ، لكن الجاهل يجب أن يتوقف في إثبات الأحكام ولا يحكم فيها بنفي ولا إثبات . واختاره المطرزي في العنوان " وهو قريب من قول أصحابنا : إن الإنسان إن حلف على فعل نفسه حلف على البت لإمكان اطلاعه عليه أو على فعل غيره حلف على نفي العلم . والسابع : قاله ابن فورك : النافي لحكم شرعي إذا قال : " لم أجد فيه دليلا وقد تصفحت الدلائل " وكان من أهل الاجتهاد ، كان له دعوى ذلك . ويرجع إلى ما تقتضيه العقول من براءة الذمة . قال : وهذا النوع قريب من استصحاب الحال ، فيجيء على قول من يقول بالإباحة أو الحظر أن لا دليل عليه ، فأما من قال بالوقف فلا يصح ذلك إلا على طريق استصحاب الحال الشرعي . والثامن : أنه حجة دافعة لا موجبة ، حكاه أبو زيد في التقويم " . والتحقيق أن القائل : بأنه لا دليل عليه ، إن أراد أنه يكفيه استصحاب العدم الأصلي بأن الأصل يوجب ظن دوامه فهو صحيح وإن أراد أنه لا دليل عليه ألبتة ، وحصول العلم أو الظن بلا سبب فهو خطأ ، لأن النفي حكم شرعي ، وذلك لا يثبت إلا بدليل . وقال الهندي : في هذه خلاف ، لأنه إن أريد بالنافي من يدعي العلم أو الظن بالنفي فهذا يجب عليه الدليل ، كما في الإثبات ، لأن المسألة مفروضة فيما لا يعلم نفيه بالضرورة ، وإن أريد من يدعي عدم علمه أو ظنه فهذا لا دليل عليه ، لأنه يدعي جهله بالشيء ، والجاهل بالشيء غير مطالب بالدليل على جهله ، كما لا يطالب به من يدعي أنه لا يجد ألما ولا جوعا ولا حرا ولا بردا .

                                                      [ ص: 35 ] مناظرة قال ابن العربي رحمه الله : ذكرت حكما بحضرة الإمام أبي الوفاء ابن عقيل ، فطولبت بالدليل فقلت : لا دليل علي ، لأني ناف ، والنافي لا دليل عليه . فقال لي : ما دليلك على أن النافي لا دليل عليه ؟ قلت : هذا لا يليق بمنصبك ، أنا ناف أيضا في قولي " لا دليل على النافي " فكيف تطالبني بالدليل ؟ فأجاب : يدل على اللزوم بأن يقال : النافي مفت ، كما أن المثبت مفت ، والفتوى لا تكون إلا بدليل . واستشهد بمسألة ، وهي أنه لو قامت البينة على رجل أنه كان بالكرخ يوم السبت ، وشهدت أخرى أنه لم يكن بها يوم السبت ، بل بالموصل . وكذلك من قال : إن الله واحد يطالب بالدليل ، وليست الوحدانية إلا نفي الثاني . فأجبت بأن هذا دليل باطل ، لأنك تروم به إثبات محال ، وهو الدليل على النافي ، وذلك لأن الأسباب المقتضية مع تشعب طرقها وتقارب أطرافها فما من سبب يتعرض لإبطاله إلا ويجوز فرض تعلق الحكم به ، وهذا لا طريق إليه ، مع أنه يفوت بهذا مقصود النظر من العثور على الأدلة وبدائع الأحكام ، قلت : وما هذا إلا كالمدعي والمنكر ، فإن المدعي مثبت والمنكر ينفي ولا يطالب بإقامة البينة على نفيه . وأما مسألة الشهادة فلا تلزم للتعارض بين النفي والإثبات . وأما الوحدانية فالتعارض لإثبات إله على صفة ، فإثبات صفة الوحدانية فيها نفي الشركة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية