الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المسألة الثانية في أنه هل تعبد بعد النبوة بشرع من قبله صلى الله عليه وسلم أم كان منهيا عنها ؟ والبحث هنا مع القائلين بالتعبد قبله . وأما من نفاه ثم [ فقد ] نفاه هاهنا بالأولى . على مذاهب . أحدها : أنه لم يكن متعبدا ، بل كان منهيا عنها ، وحكاه ابن السمعاني عن أكثر المتكلمين وجماعة من أصحابنا ومن الحنفية ، وهو آخر [ ص: 43 ] قولي الشيخ أبي إسحاق ، كما قاله في اللمع " واختاره الغزالي في آخر عمره ، وقال ابن السمعاني : إنه المذهب الصحيح ، وكذا قال الخوارزمي في الكافي " لأنه لما بعث معاذا إلى اليمن لم يرشده ، بل ذكر له الكتاب والسنة والاجتهاد . ونصره الصيرفي في الدلائل " قال : وأما حديث : كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه ، فإن صح فهو محمول على الاختيار لا الوجوب . انتهى . والحديث رواه البخاري .

                                                      قال بعضهم : وإنما ذلك لأنهم كانوا على بقية من دين الرسل ، فما تبين أنهم لم يحرفوه ولا بدلوه فأحب موافقتهم لقوله تعالى : { فبهداهم اقتده } ثم قضيته أنه غير متعبد بها ولا منهي عنها . وقال النووي في زوائده " : الأصح أنه ليس بشرع لنا ، لكن نقل ابن الرفعة عن النص خلافه ، وقال ابن حزم : إنه الصحيح قال ولقد قبح إسماعيل بن إسحاق القاضي من المالكية في قوله : إن رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين الزانيين تعبد بما في التوراة قال : وهذا قريب من الكفر . وقال في كتابه الإعراب " : لا يجوز العمل بشيء من شرائعهم ، لقوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } واختاره الإمام الرازي والآمدي . المذهب الثاني : أنه كان متعبدا باتباعها ، إلا ما نسخ منها ، ونقله ابن السمعاني عن أكثر أصحابنا وعن أكثر الحنفية وطائفة من المتكلمين . وقال ابن القشيري : هو الذي صار إليه الفقهاء .

                                                      وقال سليم : أنه قول أكثر أصحابنا ، واختاره الشيخ أبو إسحاق أولا في التبصرة " واختاره ابن برهان وقال : إنه قول أصحابنا ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن قال : ولذلك استدل بقصة صالح النبي عليه السلام وقومه في شرب الناقة على إجازة المهايأة . وقال الخفاف في شرح الخصال " : شرائع من قبلنا واجبة علينا إلا في خصلتين : إحداهما أن يكون شرعنا ناسخا لها ، أو يكون في شرعنا ذكر لها ، فعلينا اتباع ما كان من شرعنا وإن كان في شرعهم مقدما . انتهى . واختاره ابن الحاجب وهو معنى قوله إذا وجدنا حكما في [ ص: 44 ] شرع من قبلنا ولم يرد في شرعنا ناسخ له لزمه التعلق به .

                                                      قال ابن السمعاني : وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه . قلت : وقال ابن الرفعة في المطلب " إن الشافعي نص عليه في الأم " في كتاب الإجارة وأنه أظهر الوجهين في الحاوي " . انتهى . وقال إمام الحرمين : للشافعي ميل إلى هذا ، وبنى عليه أصلا من أصوله في " كتاب الأطعمة " ، وتابعه معظم الأصحاب . وقال في النهاية " : وقد استأنس الشافعي لصحة الضمان بقوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } فكان الحمل في معنى الجعالة لمن ينادي في العير بالصواع ، ولعله كان معلوما عندهم وتعلق الضمان به ، وقال أيضا في " كتاب الضمان " فيمن حلف ليضربن عبده مائة سوط ، فضربه بالعثكول : إنه يبرأ ، لقصة أيوب عليه السلام ، اتفق العلماء على أن هذه الآية معمول بها في ملتنا ، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ وفيما يقع برا وحنثا .

                                                      وثبت عن ابن عباس أنه سجد في " سورة ص " وقرأ قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فاستنبط التشريع من هذه الآية . رواه أحمد وسعيد بن منصور وقال أبو بكر عبد الوهاب : إنه الذي تقتضيه أصول مالك . وكذا قال القرطبي : ذهب إليه معظم أصحابنا . وقال ابن العربي في القبس " : نص عليه مالك في " كتاب الديات " من الموطإ " . ولا خلاف عنده فيه . وإذا قلنا بأنه شرع لنا فقيل : شرع إبراهيم صلوات الله عليه وحده ، وقيل : شرع موسى عليه السلام شرعنا إلا ما نسخ بشريعة عيسى . وقيل : شريعة عيسى وحده . حكاه الشيخ في اللمع " والقاضي عبد الوهاب وغيرهما : ونقلا الخلاف بعينه في الملتين . وقال الماوردي في الحاوي " : ما تضمنته شرائع من قبلنا ، فيما لم يقصه الله علينا في كتابه ، لا يلزمنا [ ص: 45 ] حكمه ، لانتقاء العلم بصحته . وأما ما قصه علينا في كتابه لزمنا فيه شرائع إبراهيم ، لقوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم } . وفي لزوم ما شرعه غيره من الأنبياء وجهان : ( أحدهما ) : يلزمه ، لكونه حقا ما لم يقم دليل على نسخه . و ( الثاني ) : لا يلزم ، لكون أصله منسوخا . انتهى .

                                                      وما ذكره من الوفاق على إبراهيم ذكره القاضي ابن كج في أول كتاب التجريد " فقال : اختلف أصحابنا في شرائع من قبلنا ، هل تلزمنا ؟ ولم يختلفوا في أن شريعة إبراهيم لازمة لنا . وقال في كتابه الأصول " : إذا ثبت في شريعة موسى شيء ، هل يجوز بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم التمسك به ؟ وجهان : ( أحدهما ) : يجب علينا الاقتداء بشرائعهم إلى أن يمنع من ذلك شرعنا . ( والثاني ) : لا اقتداء إلا بشريعة إبراهيم . قال ابن القطان : كان أبو العباس بن سريج يقول : ما حكى الله في كتابه عنهم فهو حق ، وهو واجب في شريعتنا إلا أن يغير عنه . وقد كان سائر أصحابنا يقولون : ما حكي لنا عنهم مما تقوم به الحجة من المستفيض والمتواتر سواء في أنه على وجهين . انتهى . المذهب الثالث : أنه لم يتعبد فيها بأمر ولا نهي . حكاه ابن السمعاني . المذهب الرابع : الوقف . حكاه ابن القشيري . وحكى ابن برهان في الأوسط " عن أبي زيد ، أن ما أخبر الله عن الأنباء المتقدمين ، كقسمة المهايأة في قوله تعالى : { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } وقوله : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } وقوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } . . . قال : فهذا يكون شرعنا ، لأنه مصون عن التحريف .

                                                      وهذا لا يصلح جعله مذهبا بالتفصيل ، لاقتضائه أن القائل بأنه شرع بقوله وإن احتمل التبديل ، وهو لا يقوله أحد ويحتمل أن يجعل المنقول عنهم عما في القرآن خاصة كما هو ظاهر عبارة الماوردي السابقة ، فيجيء [ ص: 46 ] حينئذ التفصيل ، إلا أنه لا وجه لهذا التخصيص . ولهذا قال القرطبي : فيما إذا بلغنا شرع من تقدمنا على لسان الرسول ، أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ، ولم يكن ذلك منسوخا ولا مخصوصا بأحد . انتهى .

                                                      قلت : ويلحق بهم النجاشي ،

                                                      وقد روى ابن حبان في صحيحه " عن عامر بن شهر قال : كلمتان سمعتهما ، ما أحب أن لي بواحدة منهما الدنيا وما فيها ، إحداهما من النجاشي ، والأخرى من النبي صلى الله عليه وسلم . فأما التي سمعتها من النجاشي فإنا كنا عنده إذ جاءه ابن له من الكتاب يعرض لوحه قال : وكنت أفهم بعض كلامهم ، فمر بأية فضحكت . فقال : ما الذي أضحكك ؟ ، والذي نفسي بيده لأنزلت من عند ذي العرش أن عيسى ابن مريم قال : إن اللعنة تكون في الأرض إذا كانت إمارة الصبيان . والذي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { اسمعوا من قريش ودعوا فعلهم } . قلت : وقد فرقه أبو داود ، فروى أوله في " كتاب الجراح " وباقيه في " كتاب السنة " . وقال فيه ابن عبد البر : حديث حسن . وروى عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الرحمن : " رجل من أهل صنعاء " قال : أرسل النجاشي ذات يوم وراء أصحابه فدخلوا عليه وقد جلس على التراب ولبس الخلقان ، فبشرهم بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ببدر ، فسألوه عن جلوسه على [ ص: 47 ] هذه الحالة ، فقال : إنا نجد في كتاب الله تعالى الذي أنزله على عيسى صلى الله عليه وسلم : إن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عند كل ما أحدث لهم من نعمة . فلما أحدث الله نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع .

                                                      وروى الحاكم في المستدرك " عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مكتوب في التوراة : من سره أن تطول حياته ، ويزداد في رزقه فليصل رحمه } . وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة . والقول بجريان هذا في أخبار من لم يطلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه بعيد . وقال إلكيا ما حاصله : المراد بشرع ما قبلنا ما حكاه الله ورسوله عنهم أما الموجود بأيديهم فممنوع اتباعه بلا خلاف . قال : وعلة المنع إما لتهمة التحريف ، وإما لتحقق النسخ . قال ووقع الإجماع على أحد هذين الاحتمالين . وتظهر فائدتهما فيما حكاه الله لنبيه من شرعهم .

                                                      فإن قلنا : التهمة التحريف فلا يتجه . وإن قلنا لتحقق النسخ اطرد ذلك في المحكي وغيره . قلت : ولهذا فصل أبو زيد والماوردي ما سبق .

                                                      تنبيهات الأول قال المقترح : هذا الخلاف مبني على أن كل شريعة لما وردت ، كانت خاصة أو كانت عامة ، فالذي فصل يقدر أن تكون عامة ، وهل اندرست أم لا ؟ والذي يدعي أنها شرع لنا يحتاج إلى إثبات أنها حيث وردت دامت ولم تندرس . وقالابن برهان : هو مبني على أن نفس بعثة الأنبياء لا تصلح أن تكون ناسخة ومغيرة . وعندهم : تصلح لذلك .

                                                      [ ص: 48 ] الثاني قال الأستاذ أبو منصور وغيره : فائدة الخلاف في هذه المسألة تظهر في حادثة ليس فيها نص ولا إجماع ، ولها حكم شرعي معلوم في شرع قبل هذا الشرع ، هل يجوز الأخذ به أم لا ؟ . ومن فروعه : ما إذا تعذر الاطلاع على حكم ما يحل أكله ويحرم ، وثبت تحريمه بشرع سابق بنص أو شهادة فقولان : أحدهما : أنا نستصحبه حتى يظهر ناسخ وناقل . و ( أصحهما ) : لا ، بل يعمل بظاهر الآية من الحل . وعلى الأول فلو اختلف فيه ، ففي الحاوي " للماوردي : إنما يعتبر حكمه في أقرب الشرائع بالزمن للإسلام . وإن اختلفوا فوجهها تعارض الأشباه . الثالث قال القاضي في التقريب " : ليس تحقيق الخلاف أن يقول المخالف : إنه قد أمر بمثل شرع من تقدم ، لأن أحدا لا ينكر هذا ، فإن كان هذا قول المخالفين فإنه ورد عليه أمر مستأنف مبتدأ موافق لشرع من قبله ، فقد وافقوا على المعنى ، وإنما الخلاف في أنه هل يلزمه بعد المبعث العمل بشريعة من قبله على وجه الاتباع لنبي قبله وفرض لزوم دعوته ؟ قال القاضي : فهذا هو الباطل الذي ننكره . .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية