الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( 5 ) حب العشيرة حب عصبية وتعاون واعتزاز ، وولاية ونصر في القتال ، ويكون على أشده في أهل البداوة ، ومن على مقربة منهم من أهل الحضارة ، وقد أضعف الإسلام هذا النوع من الحب والولاية بالمساواة بين المسلمين في أخوة الإسلام كما بيناه في تفسير : فإخوانكم في الدين من الآية الحادية عشرة من هذه السورة ، وبتحريم الدعوة إلى عصبية والقتال على عصبية ، كما أضعفته الحياة الحضرية التامة التي توكل فيها حماية الأفراد إلى دولة الرجل دون عشيرته وقبيله ، وتجمع العشيرة على عشيرات كما في المصباح المنير ، وبه قرأ أبو بكر وعاصم .

                          ( 6 ) حب الأموال المقترفة - أي المكتسبة - طبيعي أيضا ، وهو أقوى في النفس من حب الأموال الموروثة ; لأن عناء الإنسان في اقترافها يجعل لها في قلبه من القيمة والمنزلة ما ليس لما جاءه عفوا ، كما هو مشهور بين الناس علما وعملا ، وقد بينا أسباب حب المال من حيث هو في تفسير آية آل عمران ( 3 : 14 ) المشار إليها آنفا .

                          ( 7 ) حب التجارة التي يخشى كسادها ، يراد به والله أعلم عروض التجارة التي يخشى كسادها في حالة الحرب ، وقد كان بعض المسلمين من أهل مكة تجارا كما ورد ، وكان لدى بعضهم شيء من عروض التجارة يخشى كسادها في أوقات الحرب ; لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين ، وكانت أسواقها تنصب في أيام موسم الحج وقد منع منه المشركون بمقتضى الآيات السابقة واللاحقة من هذه السورة ، وناهيك بحب أبي سفيان وولده للمال ، وولوعه بالتجارة ، وما كان من تأليبه المشركين على قتال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم بدر لأجل تجارته ، وقد أظهر الإسلام يوم الفتح ، ثم روي عنه أنه كان من الشامتين بهزيمة المؤمنين يوم حنين ، فتألفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكثرة العطاء من غنائم هوازن ، كما استماله يوم الفتح بقوله : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " رواه مسلم .

                          ( 8 ) حب المساكن المرضية طبيعي أيضا ، فكم ممن لا يملك مسكنا يأويه ، أو يملك قصرا لا يرضيه ، والمراد هنا فيما يظهر والله أعلم ما كان لبعض المسلمين في مكة والمدينة من الدور الحسنة التي كانوا يرضونها للإقامة والسكنى بما فيها من المرافق وأسباب الراحة ، ويكونون في مدة خروجهم للجهاد محرومين منها - وما كان لبعض آخر في مكة يعدونها [ ص: 208 ] للاستغلال في أيام الموسم إذ يظهر من طبيعة الأحوال أن ذلك قديم ، وهذا النوع يكون معطلا بمنع المشركين من الحج وهو ما بلغوه من هذه السورة .

                          فهذه ثمانية أنواع من حب القرابة والزوجية والمنافع والمرافق التي عليها مدار معايش الناس ، قد كان من شأنها أن تجعل القتال مكروها فوق الكره الذي تقتضيه ذاته الوحشية ، وما يلزمه من مفارقة هذه المحبوبات كلها أو بعضها ; ولذلك لم يشرع إلا للضرورة التي يرجح بها الإقدام عليه على الإحجام عنه ، كما قال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ( 2 : 216 ) الآية ، وكقوله : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ( 2 : 251 ) وغيرهما مما تقدم في تفسير هذه السورة وما قبلها من حكمة تشريع القتال ، وكونه بحسن القصد والشروط التي يوجبها الإسلام أعظم مزيل للفساد ، ومصلح لأمر العباد ، فراجعه إن كان غاب عنك فهو يفيد في فهم ما هنا . وزد عليه ما يجب إيثاره من حب الله ورسوله على كل حب ، وتقديم كل جهاد في سبيله على كل منفعة في الأرض .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية