الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الحرمة في جانب زوج المرضعة التي نزل لها منه لبن فثبتت عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم وروي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال : لا تثبت وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن يسار وبشر المريسي ومالك وهي المسألة الملقبة عند الفقهاء بلبن الفحل أنه هل يحرم أو لا ؟ وتفسير تحريم لبن الفحل أن المرضعة تحرم على زوج المرضعة ; لأنها بنته من الرضاع وكذا على أبنائه الذين من غير المرضعة ; لأنهم إخوتها لأب من الرضاعة وكذا على أبناء أبنائه وأبناء بناته من غير المرضعة ; لأنهم أبناء إخوة المرضعة وأخواتها لأب من الرضاعة .

                                                                                                                                وعلى هذا إذا كان لرجل امرأتان فحملتا منه وأرضعت كل واحدة منهما صغيرا أجنبيا ; فقد صارا أخوين لأب من الرضاعة .

                                                                                                                                فإن كان أحدهما أنثى فلا يجوز النكاح بينهما ; لأن الزوج أخوها لأبيها من الرضاعة ، وإن كانا أنثيين لا يجوز لرجل أن يجمع بينهما ; لأنهما أختان لأب من الرضاعة وتحرم على آباء زوج المرضعة ; لأنهم أجدادها من قبل الأب من الرضاعة وكذا على إخوته ; لأنهم أعمامها من الرضاعة وأخواته عمات المرضع فيحرمن عليه .

                                                                                                                                وأما أولاد إخوته وأخواته فلا تحرم المناكحة بينهم ; لأنهم أولاد الأعمام والعمات ويجوز النكاح بينهم في النسب فيجوز في الرضاع .

                                                                                                                                هذا تفسير لبن الفحل .

                                                                                                                                احتج من قال : إنه لا يحرم بأن الله عز وجل بين الحرمة في جانب المرضعة ولم يبين في جانب الزوج بقوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ولو كانت الحرمة ثابتة في جانبه ; لبينها كما بين في النسب بقوله عز وجل { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } ولأن المحرم هو الإرضاع وإنه وجد منها لا منه فصارت بنتا لها لا له ، والدليل عليه أنه لو نزل للزوج لبن فارتضعت منه صغيرة ; لم تحرم عليه فإذا لم تثبت الحرمة بلبنه فكيف تثبت بلبن غيره ؟ ، ولنا الحديث المشهور وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } روي أن عائشة رضي الله عنها قالت : { جاء عمي من الرضاعة فاستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : إنما هو عمك فأذني له فقلت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه عمك فليلج عليك قالت عائشة رضي الله عنها : وكان ذلك بعد أن ضرب علينا الحجاب } أي : بعد أمر الله عز وجل النساء بالحجاب عن الأجانب ، وقيل : كان الداخل عليك أفلح أخا أبي القعيس وكانت امرأة أبي القعيس أرضعتها ، وعن عمرة أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة قالت عائشة : فقلت يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك فقال { : أراه فلانا - لعم حفصة من الرضاعة - فقلت : يا رسول الله لو كان فلانا حيا - لعمي من الرضاعة - أكان يدخل علي ؟ فقال : نعم إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة } وعن علي رضي الله عنه أنه قال : لا تنكح من أرضعته امرأة أبيك ولا امرأة أخيك ولا امرأة ابنك وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل له امرأتان أو جارية وامرأة فأرضعت هذه غلاما وهذه جارية : هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية ؟ فقال رضي الله عنه : لا اللقاح واحد بين الحكم وأشار إلى المعنى وهو اتحاد اللقاح ; ولأن المحرم هو اللبن وسبب اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعا فيجب أن يكون الرضاع منهما جميعا كما كان الولد لهما جميعا .

                                                                                                                                وأما قولهم : إن الله تعالى بين الحرمة في جانب المرضعة لا في جانب زوجها فنقول : إن لم يبينها نصا فقد بينها دلالة ; وهذا لأن البيان من الله تعالى بطريقين : بيان إحاطة وبيان كفاية ، فبين في النسب بيان إحاطة وبين في الرضاع بيان كفاية تسليطا [ ص: 4 ] للمجتهدين على الاجتهاد والاستدلال بالمنصوص عليه على غيره وهو أن الحرمة في جانب المرضعة لمكان اللبن وسبب حصول اللبن ونزوله هو ماؤهما جميعا ; فكان الرضاع منهما جميعا وهذا ; لأن اللبن إنما يوجب الحرمة لأجل الجزئية والبعضية ; لأنه ينبت اللحم وينشر العظم على ما نطق به الحديث ، ولما كان سبب حصول اللبن ونزوله ماءهما جميعا ، وبارتضاع اللبن تثبت الجزئية بواسطة نبات اللحم ; يقام سبب الجزئية مقام حقيقة الجزئية في باب الحرمات احتياطا والسبب يقام مقام المسبب خصوصا في باب الحرمات أيضا .

                                                                                                                                ألا ترى أن المرأة تحرم على جدها كما تحرم على أبيها ، وإن لم يكن تحريمها على جدها منصوصا عليه في الكتاب العزيز ، لكن لما كان مبينا بيان كفاية وهو أن البنت وإن حدثت من ماء الأب حقيقة دون ماء الجد لكن الجد سبب ماء الأب أقيم السبب مقام المسبب في حق الحرمة احتياطا كذا ههنا ، والدليل عليه أنه لما لم يذكر البنات من الرضاعة نصا ; لم يذكر بنات الإخوة والأخوات من الرضاعة نصا ، وإنما ذكر الأخوات ثم ذكر لبنات الإخوة والأخوات دلالة حتى حرمن بالإجماع كذا ههنا .

                                                                                                                                على أنه إن لم يبين بوحي متلو فقد بين بوحي غير متلو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب } وقد خرج الجواب عن قولهم : إن الإرضاع وجد منها لما ذكرنا أنه وجد منهما ; لأن سبب حصول اللبن ماؤهما جميعا فكان الإرضاع منهما جميعا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية