الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. ( قال ) وكذلك المرأة تحرم بالحج ، وليس لها محرم ، ولا زوج يخرج معها فهي بمنزلة المحصر ، وهذا بناء على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج لسفر الحج إلا مع محرم أو زوج عندنا . وقال الشافعي رحمه الله تعالى إذا وجدت رفقة نساء ثقات فلها أن تخرج وإن لم تجد محرما ، واحتج في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة فاشتراط المحرم يكون زيادة على النص ، ومثل هذه الزيادة [ ص: 111 ] تعدل عندكم النسخ ثم هذا سفر لإقامة الفرض فلا يشترط فيه المحرم كسفر الهجرة فإن التي أسلمت في دار الحرب لها أن تهاجر إلى دار الإسلام بغير محرم ، وهذا لأن شرائط إقامة الفرض ما يكون في وسع المرء عادة ، ولا ولاية لها على المحرم في إحرامه ، ولا يجب على المحرم الخروج معها ، وليس عليها أن تتزوج لأجل هذا الخروج بالاتفاق فعرفنا أن المحرم ليس بشرط إلا أن عليها أن تتحرز عن الفتنة ، وفي اختلاطها بالرجال فتنة ، وهي تستوحش بالوحدة فتخرج مع رفقة نسوة ثقات لتستأنس بهن ، ولا تحتاج إلى مخالطة الرجال ، وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها فقام رجل فقال إني أريد الخروج في غزوة كذا وإن امرأتي تريد الحج فماذا أصنع فقال صلى الله عليه وسلم اخرج معها ، لا تفارقها } ففي هذا دليل على أنهم فهموا من السفر الذي ذكره سفر الحج حتى قال السائل ما قال ، وفي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزوج بأن يترك الغزو ، ويخرج معها دليل على أنه ليس لها أن تخرج إلا مع زوج أو محرم .

والمعنى في ذلك أنها تنشئ سفرا عن اختيار فلا يحل لها ذلك إلا مع زوج أو محرم كسائر الأسفار بخلاف المهاجرة فإنها لا تنشئ سفرا ، ولكنها تقصد النجاة ألا ترى أنه لو وصلت إلى جيش من المسلمين في دار الحرب حتى صارت آمنة لم يكن لها أن تسافر بعد ذلك من غير محرم ، ولأنها مضطرة هناك لخوفها على نفسها ألا ترى أن العدة هناك لا تمنعها من الخروج ، وهنا لو كانت معتدة لم يكن لها أن تخرج للحج ، وتأثير فقد المحرم في المنع من السفر كتأثير العدة فإذا منعت من الخروج لسفر الحج بسبب العدة فكذلك بسبب فقد المحرم ، وهذا لأن المرأة عرضة للفتنة ، وباجتماع النساء تزداد الفتنة ، ولا ترفع إنما ترفع بحافظ يحفظها ، ولا يطمع فيها ، وذلك المحرم ، وتفسيره من لا يحل له نكاحها على التأبيد بسبب قرابة أو رضاع أو مصاهرة ألا ترى أنه يجوز له أن يخلو بها لأنه لا يطمع فيها إذا علم أنها محرمة عليه أبدا فكذلك يسافر بها .

( قال ) ويستوي أن يكون المحرم حرا أو مملوكا مسلما أو كافرا لأن كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه إلا أن يكون مجوسيا فحينئذ لا تخرج معه لأنه يعتقد إباحتها له فلا ينقطع طمعه عنها فلهذا لا تسافر معه ، ولا يخلو بها .

إذا عرفنا هذا فنقول : إذا لم تجد المحرم ، وقد أحرمت بحجة الإسلام فهي ممنوعة من الخروج شرعا فصارت كالمحصر تبعث بالهدي فتتحلل به ، وإن كانت ذات زوج ، وأرادت [ ص: 112 ] أن تخرج لحجة الإسلام مع المحرم فليس للزوج أن يمنعها من الخروج عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى له أن يمنعها من الخروج لأنها صارت كالمملوكة له بعقد النكاح ، وثبت له حق الاستمتاع بها فهي بهذا الخروج تحول بين الزوج وبين حقه أو تلزمه مشقة السفر فكان له أن يمنعها من ذلك كما يمنعها من الخروج لزيارة الأقارب ، وكما يمنعها من الخروج لحجة التطوع لكنا نقول فرض الحج يتوجه عليها باستجماع الشرائط فكان ذلك مستثنى من حق الزوج ، وبسبب عقد النكاح لا يثبت عليها للزوج ولاية المنع من أداء الفرائض ألا ترى أنه لا يمنعها من صيام شهر رمضان ، والمولى لا يمنع مملوكه من أداء الصلاة لأن ذلك مستثنى من حقه فهذا مثله بخلاف ما إذا لم تجد محرما فإن هناك الفرض لم يتوجه عليها لانعدام شرائطه حتى لو كانت لا تحتاج إلى سفر بأن كان بينها ، وبين مكة دون مسيرة ثلاثة أيام فليس للزوج أن يمنعها ، وإن لم تجد محرما لأن اشتراط المحرم للسفر لا لما دونه ، وأما حج التطوع فالخروج لأجله لم يصر مستثنى من حق الزوج لأن ذلك ليس بفرض عليها فإذا أحرمت بحجة التطوع كان للزوج أن يمنعها ، ويحللها إلا أن هنا لا يتأخر تحليله إياها إلى ذبح الهدي ، ولكن يحللها من ساعته ، وعليها هدي لتعجل الإحلال ، وعمرة ، وحجة لصحة شروعها في الحج بخلاف حجة الإسلام لأن هناك لا تتحلل إلا بالهدي لأن هناك لا حق للزوج في منعها لو وجدت محرما ، وإنما تعذر عليها الخروج لفقد المحرم فلا تتحلل إلا بالهدي ، وهنا تعذر الخروج لحق الزوج ، وكما لا يكون لها أن تبطل حق الزوج ، لا يكون لها أن تؤخر حق الزوج فكان له أن يحللها من ساعته ، وتحليله لها أن ينهاها ، ويصنع بها أدنى ما يحرم عليها في الإحرام من قص ظفر ونحوه ، ولا يكون التحليل بالنهي ، ولا بقوله حللتك لأن عقد الإحرام قد صح فلا يصح الخروج إلا بارتكاب محظوره ، وذلك لا يحصل بقوله حللتك ، وهو نظير الصوم إذا صح الشروع فيه لا يصير خارجا إلا بارتكاب محظور حتى أن الزوج لو نهاها عن صوم التطوع لا تصير خارجة عن الصوم بمجرد نهيه ، وكذلك المملوك يهل بغير إذن مولاه فللمولى أن يحلله لقيام حقه في خدمته ، ومنافعه ، والمملوك في هذا كالزوجة في حجة التطوع على ما بينا

التالي السابق


الخدمات العلمية