الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها، فهذا ضعيف. فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا، ولا أن يكون على الملة، ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته، حتى يسأل عمن مات صغيرا. ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير.

وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان، فقالوا: إنهم أولاد المشركين. قال: أليس خياركم أولاد المشركين؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة. ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك، مع كونهم مشركين، مستوجبين للقتل.

وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها، فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور، فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان. [ ص: 386 ]

قال: (وقال آخرون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: « كل مولود يولد على الفطرة» ، يعني البدأة التي ابتدأهم عليها، يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاوة، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم) .

(قالوا: والفطرة في كلام العرب البداءة. والفاطر المبدئ والمبتدئ، فكأنه قال: -صلى الله عليه وسلم-: يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة، وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه. واحتجوا بقوله تعالى: كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة .[سورة الأعراف:29-30]

وروي بإسناده إلى (ابن عباس قال: لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا [ ص: 387 ] فطرتها، أي ابتدأتها) .. (وذكروا ما يروى عن علي -رضي الله عنه- في دعائه: اللهم جبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها) . قلت: حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه. ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم الله لها. والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها. وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقا على الفطرة.

وأيضا فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله: « فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، على هذا القول، فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ، وبين تلقين الإسلام وتعليمه، وبين تعليم سائر الصنائع، فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم.

وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت، يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه.

وأيضا فقوله: (على هذه الملة) ، وقوله: (إني خلقت [ ص: 388 ] عبادي حنفاء) يخالف هذا.

وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان، فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله، على ما سبق في علم الله، فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص.

وقد ثبت في الصحيح أنه: قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فلو قيل: كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة، لكان أشبه بهذا المعنى، مع أن النفخ هو بعد الكتابة.

قال ابن عبد البر: (قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك، أنه سئل عن هذا الحديث، فقال: يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين: الله أعلم بما كانوا عاملين. [ ص: 389 ]

قال المروزي: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه.

قال ابن عبد البر: ما رسمه مالك في موطأه، وذكره في أبواب القدر، فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا) .

التالي السابق


الخدمات العلمية