الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله : ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق ) .

ش : قال تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( الأعراف : 172 ) [ ص: 303 ] . أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو . وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام ، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال ، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم :

فمنها : ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان - يعني : عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا . إلى قوله : المبطلون .

[ ص: 304 ] ورواه النسائي أيضا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وروى الإمام أحمد أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها ، فقال : إن الله خلق آدم عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله عز وجل ] إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار . ورواه أبو داود ، والترمذي ، [ ص: 305 ] والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن حبان في صحيحه .

[ ص: 306 ] وروى الترمذي عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله آدم مسح على ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم ، فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له : داود ، قال : رب ، كم عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاء ملك الموت ، قال : أولم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال : أولم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم ، فخطئت ذريته . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه .

وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به ؟ قال : فيقول : نعم ، قال : فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر [ ص: 307 ] آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئا . وأخرجاه في الصحيحين أيضا .

وفي ذلك أحاديث أخر أيضا كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل النار وأهل الجنة .

ومن هنا قال من قال : إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد . وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا ، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها ، واستخرج تلك الصور من مادتها ، ثم أعادها إليها ، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ، ولا يدل على أنها خلقت خلقا مستقرا واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة ، كما قاله ابن حزم . فهذا لا تدل الآثار عليه ، نعم ، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة ، كما قاله على الوجه الذي سبق به التقدير أولا ، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق ، كشأنه سبحانه في جميع مخلوقاته ، فإنه قدر لها أقدارا وآجالا ، وصفات وهيئات ، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق .

فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق ، وبعضها يدل [ ص: 308 ] على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية