الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) .

[ ص: 477 ] أمر تعالى نبيه بالصبر تأنيسا له ، وإلا فهو - عليه السلام - في غاية الصبر ، وأخبر بأن ما وعده من النصر والظفر وإعلاء كلمته وإظهار دينه حق .

قيل : وجواب ( فإما نرينك ) محذوف لدلالة المعنى عليه ، أي : فيقر عينك ، ولا يصح أن يكون ( فإلينا يرجعون ) جوابا للمعطوف عليه والمعطوف ؛ لأن تركيب ( فإما نرينك ) بعض الموعود في حياتك ، ( فإلينا يرجعون ) ليس بظاهر ، وهو يصح أن يكون جواب ، ( أو نتوفينك ) أي : ( فإلينا يرجعون ) ، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك .

ونظير هذه الآية قوله : ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ) ، إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين .

وقال الزمخشري : ( فإلينا يرجعون ) متعلق بقوله : ( نتوفينك ) ، وجزاء ( نرينك ) محذوف تقديره : فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب ، وهو القتل يوم بدر فذاك ، أو أن نتوفينك قبل يوم بدر ، فإلينا يرجعون يوم القيامة ، فننتقم منهم أشد الانتقام .

وقد تقدم للزمخشري نحو هذا البحث في سورة يونس في قوله : ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ) ، ورددنا عليه ، فيطالع هناك .

وقال الزمخشري أيضا : ( فإما نرينك ) أصله فإن نرك ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك ألحقت النون بالفعل .

ألا تراك لا تقول : إن تكرمني أكرمك ، ولكن أما تكرمني أكرمك ؟ انتهى .

وما ذهب إليه من تلازم ما المزيدة ونون التوكيد بعد إن الشرطية هو مذهب المبرد والزجاج .

وذهب سيبويه إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون ، وإن شئت أتيت بالنون دون ما .

قال سيبويه في هذه المسألة : وإن شئت لم تقحم النون ; كما أنك إذا جئت لم تجئ بما يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما ، ولم تجئ بما مع مجيئك بالنون .

وقرأ الجمهور : ( يرجعون ) بياء الغيبة مبنيا للمفعول ; وأبو عبد الرحمن ، ويعقوب بفتح الياء ; وطلحة بن مطرف ، ويعقوب في رواية الوليد بن حسان : بفتح تاء الخطاب .

ثم رد تعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل ، وفي عدد الرسل اختلاف .

روي أنه ثمانية آلاف من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من غيرهم .

وروي : بعث الله أربعة آلاف نبي ، ( منهم من قصصنا عليك ) أي : من أخبرناك به ، أما في القرآن فثمانية عشر .

( ومنهم من لم نقصص عليك ) ، وعن علي ، وابن عباس : أن [ ص: 478 ] الله بعث نبيا أسود في الحبش ، فهو ممن لم يقصص عليه .

( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) أي : ليس ذلك راجعا إليهم ، لما اقترحوا على الرسل ، قال : ليس ذلك إلي لا تأتي آية إلا إن شاء الله ، ( فإذا جاء أمر الله ) : رد ووعيد بإثر اقتراحهم الآيات ، و ( أمر الله ) القيامة .

و ( المبطلون ) المعاندون مقترحو الآيات ، وقد أتتهم الآيات ، فأنكروها وسموها سحرا ، أو ( فإذا جاء أمر الله ) أي : أراد إرسال رسول وبعثة نبي ، قضى ذلك وأنفذه ( بالحق ) ، وخسر كل مبطل ، وحصل على فساد آخرته ، أو ( فإذا جاء أمر الله ) : وهو القتل ببدر .

ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نعم فقال : ( الله الذي جعل لكم الأنعام ) ، وهي ثمانية الأزواج ، ويضعف قول من أدرج فيها الخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم ، وقول من خصها بالإبل وهو الزجاج .

( لتركبوا منها ) : وهي الإبل ، إذ لم يعهد ركوب غيرها .

( ومنها تأكلون ) : عام في ثمانية الأزواج ، و ( من ) الأولى للتبعيض . وقال ابن عطية : و ( من ) الثانية لبيان الجنس ؛ لأن الجمل منها يؤكل ، انتهى . ولا يظهر كونها لبيان الجنس ، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية . ولما كان الركوب منها هو أعظم منفعة ، إذ فيه منفعة الأكل والركوب .

وذكر أيضا أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك ، أكد منفعة الركوب بقوله : ( ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم ) من بلوغ الأسفار الطويلة ، وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة ، وقضاء فريضة الحج ، والغزو ، وما أشبه ذلك من المنافع الدينية والدنيوية .

ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتبة عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب ، أو مندوب كالحج وطلب العلم ، دخل حرف التعليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات ، فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا .

ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات ، لم يجعل ذلك علة في الجعل ، بل ذكر أن منها نأكل ، ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك ، كما أدخل لام التعليل في ( لتركبوها ) ولم يدخلها على الزينة في قوله : ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) .

ولما ذكر تعالى ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر ، ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال : ( وعليها وعلى الفلك تحملون ) .

ولما كان الفلك يصح أن يقال فيه : حمل في الفلك ، كقوله : ( احمل فيها ) ، ويصح أن يقال فيه حمل على الفلك ، اعتبر لفظ على لمناسبة قوله : ( وعليها ) ، وإن كان معنى في صحيحا ( ويريكم آياته ) أي : حججه وأدلته على وحدانيته .

( فأي آيات الله تنكرون ) أي : إنها كثيرة ، فأيها ينكر ؟ أي : لا يمكن إنكار شيء منها في العقول ، ( فأي آيات الله ) منصوب بـ ( تنكرون ) .

قال الزمخشري : ( فأي آيات ) جاءت على اللغة المستفيضة ، وقولك : فأية آيات الله قليل ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو : حمار وحمارة غريب ، وهي في ( أي ) أغرب لإبهامه . انتهى ، ومن قلة تأنيث أي قوله :


بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عارا علي وتحسب



وقوله : وهي في أي أغرب ، إن عنى أيا على الإطلاق فليس بصحيح ؛ لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى : ( يا أيتها النفس المطمئنة ) ، ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول : يا أيها المرأة ، إلا صاحب كتاب ( البديع في النحو ) . وإن عنى غير المناداة ، فكلامه صحيح ، فقل تأنيثها في الاستفهام ، وموصولة ، وما في قوله : ( فما أغنى ) نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي ، وما ( فيما كانوا ) مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وهي في موضع رفع ، والضمير في ( جاءتهم ) عائد على ( الذين من قبلهم ) . وجاء قوله : ( من العلم ) على جهة التهكم بهم ، أي : في الحقيقة لا علم لهم ، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل ، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم : ( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) ، أو اعتقدوا أن عندهم [ ص: 479 ] علما يستغنون به عن علم الأنبياء ، كما تزعم الفلاسفة . والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله ، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم .

ولما سمع سقراط - لعنه الله - بموسى ، صلوات الله على نبينا وعليه ، قيل له : لو هاجرت إليه ، فقال : نحن قوم مهذبون ، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا .

وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد وقيل : الضمير في ( فرحوا ) ، وفي ( بما عندهم ) عائد على الرسل ، أي : فرحت الرسل بما أوتوا من العلم ، وشكروا الله عليه ، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق ، وعلموا سوء عاقبتهم . وقيل : الضمير في ( فرحوا ) عائد على الأمم ، وفي ( بما عندهم ) عائد على الرسل أي : فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء .

وقال الزمخشري : ومنها ، أي من الوجوه التي في الآية في قوله : ( فرحوا بما عندهم من العلم ) ، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم . انتهى .

ويعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام ، نحو قولهم : شر أهر ذا ناب ، على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز .

وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل ؛ لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة ، فلا يوثق بشيء منها .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ( فرحوا بما عندهم من العلم ) : علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ذلك مبلغهم من العلم ، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات ، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات ، لم يلتفتوا إليها ، وصغروها واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به . انتهى .

وهو توجيه حسن ، لكن فيه إكثار وشقشقة .

( بأسنا ) أي : عذابنا الشديد ، حكى حال من آمن بعد تلبيس العذاب به ، وأن ذلك لم يك نافعا ، وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان ، وتخويف من التأني . فأما قوم يونس ، فإنهم رأوا العذاب لم يلتبس بهم ، وتقدمت قصتهم . و ( إيمانهم ) مرفوع بـ ( يك ) اسما لها ، أو فاعل ( ينفعهم ) .

وفي ( يك ) ضمير الشأن على الخلاف الذي في : كان يقوم زيد ، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي ؛ لأنه يؤدي إلى نفي الصحة ، أي لم يصح ولم يستقم لقوله : ( ما كان لله أن يتخذ من ولد ) . وترادف هذه الفاءات ، أما في ( فما أغنى ) ، فلأنه كان نتيجة قوله : ( كانوا أكثر منهم ولما جاءتهم رسلهم ) ، جار مجرى البيان والتفسير لقوله : ( فما أغنى عنهم ) . و ( فلما رأوا بأسنا ) تابع لقوله : ( فلما جاءتهم ) ، كأنه قال : فكفروا به فلما رأوا بأسنا آمنوا ولم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله ، وانتصب ( سنة ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، أي : أن ما فعل بهم هي ( سنة ) الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والإعزاز بهم ، وتعذيب من كذبهم ، واستهانتهم واستئصالهم بالهلاك ، وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم .

وهنالك ظرف مكان استعير للزمان ، أي : وخسر في ذلك الوقت الكافرون .

وقيل : ( سنة ) منصوب على التحذير ، أي : احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل .

التالي السابق


الخدمات العلمية