الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ( وجعلنا ذريته هم الباقين ( 77 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      ( ثم إن لهم عليها لشوبا ) خلطا ومزاجا ( من حميم ) من ماء حار شديد الحرارة ، يقال لهم إذا أكلوا الزقوم : اشربوا عليه الحميم ، فيشوب الحميم في بطونهم الزقوم فيصير شوبا لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ( ثم إن مرجعهم ) بعد شرب الحميم ، ( لإلى الجحيم ) وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الحميم كما تورد الإبل الماء ، ثم يردون إلى الجحيم ، دل عليه قوله تعالى : " يطوفون بينها وبين حميم آن " ( الرحمن - 44 ) وقرأ ابن مسعود : ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                      ( إنهم ألفوا ) وجدوا ، ( آباءهم ضالين ) . ( فهم على آثارهم يهرعون ) يسرعون ، قال الكلبي : يعملون مثل أعمالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) من الأمم الخالية .

                                                                                                                                                                                                                                      ( ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) الكافرين أي : كان عاقبتهم العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      ( إلا عباد الله المخلصين ) الموحدين نجوا من العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل : ( ولقد نادانا نوح ) دعا ربه على قومه فقال : " إني مغلوب فانتصر " ( القمر - 10 ) ( فلنعم المجيبون ) نحن ، يعني : أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه .

                                                                                                                                                                                                                                      ( ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ) [ الغم العظيم ] الذي لحق قومه وهو الغرق .

                                                                                                                                                                                                                                      ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) وأراد أن الناس كلهم من نسل نوح .

                                                                                                                                                                                                                                      روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم . [ ص: 44 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قال سعيد بن المسيب : كان ولد نوح ثلاثة : ساما وحاما ويافث ، فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك .

                                                                                                                                                                                                                                      ( وتركنا عليه في الآخرين ( 78 ) سلام على نوح في العالمين ( 79 ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( 80 ) إنه من عبادنا المؤمنين ( 81 ) ثم أغرقنا الآخرين ( 82 ) وإن من شيعته لإبراهيم ( 83 ) إذ جاء ربه بقلب سليم ( 84 ) إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ( 85 ) أئفكا آلهة دون الله تريدون ( 86 ) فما ظنكم برب العالمين ( 87 ) فنظر نظرة في النجوم ( 88 ) فقال إني سقيم ( 89 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      ( وتركنا عليه في الآخرين ) أي : أبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      ( سلام على نوح في العالمين ) أي : سلام عليه منا في العالمين ] وقيل : أي تركنا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      ( إنا كذلك نجزي المحسنين ) قال مقاتل : جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين . ( إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين ) [ يعني الكفار ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى ( وإن من شيعته ) أي : أهل دينه وسنته . ) ( لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم ) مخلص من الشرك والشك .

                                                                                                                                                                                                                                      ( إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ) استفهام توبيخ .

                                                                                                                                                                                                                                      ( أئفكا آلهة دون الله تريدون ) يعني : أتأفكون إفكا وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فما ظنكم برب العالمين ) - إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره - أنه يصنع بكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان لهم من الغد عيد ومجمع ، وكانوا يدخلون على أصنامهم [ ويقربون لهم القرابين ] ، ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم - زعموا - للتبرك عليه فإذا [ ص: 45 ] انصرفوا من عيدهم أكلوه ، فقالوا لإبراهيم : ألا تخرج غدا معنا إلى عيدنا ؟ فنظر إلى النجوم فقال : إني سقيم . قال ابن عباس : مطعون ، وكانوا يفرون من الطاعون فرارا عظيما . قال الحسن : مريض . وقال مقاتل : وجع . وقال الضحاك : سأسقم .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فتولوا عنه مدبرين ( 90 ) فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ( 91 ) ما لكم لا تنطقون ( 92 ) فراغ عليهم ضربا باليمين ( 93 ) فأقبلوا إليه يزفون ( 94 ) قال أتعبدون ما تنحتون ( 95 ) والله خلقكم وما تعملون ( 96 ) قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ( 97 ) فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ( 98 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      ) ( فتولوا عنه مدبرين ) إلى عيدهم ، فدخل إبراهيم على الأصنام فكسرها . كما قال الله تعالى : ( فراغ إلى آلهتهم ) مال إليها ميلة في خفية ، ولا يقال : " راغ " حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه ، ) ( فقال ) استهزاء بها : ( ألا تأكلون ) يعني : الطعام الذي بين أيديكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ( ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ) مال عليهم ، ( ضربا باليمين ) أي : كان يضربهم بيده اليمنى ؛ لأنها أقوى على العمل من الشمال . وقيل : باليمين أي : بالقوة . وقيل : أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله : " وتالله لأكيدن أصنامكم " ( الأنبياء - 57 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فأقبلوا إليه ) يعني : إلى إبراهيم ) ( يزفون ) يسرعون ، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ الأعمش وحمزة : " يزفون " بضم الياء وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان . وقيل : بضم الياء ، أي : يحملون دوابهم على الجد والإسراع .

                                                                                                                                                                                                                                      ) ( قال ) لهم إبراهيم على وجه الحجاج : ( أتعبدون ما تنحتون ) يعني : ما تنحتون بأيديكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ( والله خلقكم وما تعملون ) بأيديكم من الأصنام ، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      ( قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ) معظم النار ، قال مقاتل : بنوا له حائطا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملئوه من الحطب وأوقدوا فيه النار وطرحوه فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فأرادوا به كيدا ) شرا وهو أن يحرقوه ، ( فجعلناهم الأسفلين ) أي : المقهورين حيث سلم الله تعالى إبراهيم ورد كيدهم . [ ص: 46 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ( وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين ( 99 ) رب هب لي من الصالحين ( 100 ) فبشرناه بغلام حليم ( 101 ) فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( 102 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      ( وقال ) - يعني - إبراهيم : ( إني ذاهب إلى ربي ) أي : مهاجر إلى ربي ، والمعنى : أهجر دار الكفر وأذهب إلى مرضاة ربي ، قاله بعد الخروج من النار ، كما قال : " إني مهاجر إلى ربي " ( العنكبوت - 26 ) ، ) ( سيهدين ) إلى حيث أمرني بالمصير إليه ، وهو الشام .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل : فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال : ( رب هب لي من الصالحين ) يعني : هب لي ولدا صالحا من الصالحين .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فبشرناه بغلام حليم ) قيل : غلام في صغره ، حليم في كبره ، ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش فينتهي في السن حتى يوصف بالحلم .

                                                                                                                                                                                                                                      ( فلما بلغ معه السعي ) قال ابن عباس وقتادة : يعني المشي معه إلى الجبل . وقال مجاهد عن ابن عباس : لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى : بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله . قال الكلبي : يعني العمل لله تعالى ، وهو قول الحسن ومقاتل بن حيان وابن زيد ، قالوا : هو العبادة لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في سنه ، قيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة . وقيل : كان ابن سبع سنين .

                                                                                                                                                                                                                                      ( قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك ) واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق ، فقال قوم : هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومن التابعين وأتباعهم : كعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدي ، وهي رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقالوا : كانت هذه القصة بالشام .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن سعيد بن جبير قال : أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى ، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ، ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخرون : هو إسماعيل ، وإليه ذهب عبد الله بن عمر ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والحسن البصري ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وهي رواية عطاء بن أبي رباح ، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : المفدى إسماعيل .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلا القولين يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله : " فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي " ( الصافات - 101 ) أمره بذبح من بشره به ، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق ، كما قال في سورة هود : " فبشرناها بإسحاق " ( هود - 71 ) . [ ص: 47 ]

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال : " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " ( الصافات - 112 ) دل على أن المذبوح غيره ، وأيضا قال الله - تعالى - في سورة هود : " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " ( هود - 71 ) فكما بشره بإسحاق بشره بابنه يعقوب ، فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرظي : سأل عمر بن عبد العزيز رجلا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله - تعالى - بذبحه ، ويزعمون أنه إسحاق .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الدليل عليه : أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس قال : والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ، قد وحش يعني يبس .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا صميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة ؟ إنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قصة الذبح قال السدي : لما دعا إبراهيم فقال : رب هب لي من الصالحين ، وبشر به ، قال : هو إذا لله ذبيح ، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له : أوف بنذرك ، هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه ، فقال عند ذلك لإسحاق : انطلق فقرب قربانا لله - تعالى - فأخذ سكينا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال ، فقال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ فقال : " يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر " . [ ص: 48 ]

                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام ، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي ، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته ، أمر في المنام أن يذبحه ، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح روي في نفسه أي : فكر من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيا ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله - عز وجل - ، فمن ثم سمي يوم عرفة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات ، فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه ، فقال : " يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " .

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ حمزة والكسائي : " ترى " بضم التاء وكسر الراء : ماذا تشير . وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى ، وعزيمته على طاعته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال له ابنه : ( ياأبت افعل ما تؤمر ) وقال ابن إسحاق وغيره : فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه : يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب ، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر ، ( قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية