الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن باع جارية محرمة قد أذن لها مولاها في ذلك فللمشتري أن يحللها ويجامعها ) وقال زفر : ليس له ذلك لأن هذا عقد سبق ملكه فلا يتمكن من فسخه كما إذا اشترى جارية منكوحة . ولنا أن المشتري قائم مقام البائع وقد كان للبائع أن يحللها ، فكذا المشتري [ ص: 176 - 177 ] إلا أنه يكره ذلك للبائع لما فيه من خلف الوعد ، وهذا المعنى لم يوجد في حق المشتري ، بخلاف النكاح لأنه ما كان للبائع أن يفسخه إذا باشرت بإذنه فكذا لا يكون ذلك للمشتري ، وإذا كان له أن يحللها لا يتمكن من [ ص: 178 ] ردها بالعيب عندنا ، وعند زفر يتمكن لأنه ممنوع عن غشيانها [ ص: 179 - 182 ] ( و ) ذكر ( في بعض النسخ أو يجامعها ) والأول يدل على أنه يحللها بغير الجماع بقص شعر أو بقلم ظفر ثم يجامع ، والثاني يدل على أنه يحللها بالمجامعة لأنه لا يخلو عن تقديم مس يقع به التحلل ، والأولى أن يحللها بغير المجامعة تعظيما لأمر الحج ، والله أعلم

التالي السابق


( قوله ومن باع جارية محرمة قد أذن لها إلخ ) الأصل أن العبد والأمة إذا أحرم أحدهما بغير إذن المولى فله أن يمنعه ويحلله بلا هدي ، وذلك بأن يصنع به أدنى ما يحرم عليه بالإحرام كقلم ظفره ونحوه ، وعليه بعد العتق هدي الإحصار وحجة وعمرة إن كان الإحرام بحجة ، وإن أحرم بإذن المولى كره له تحليله ، ولو حلله حل ، ولو أحصر فعلى المولى أن يبعث دم الإحصار ويتحلل لأنه وجب عن إحرام مأذون فيه فكان كالنفقة عليه ، وقد قدمنا فيه خلافا في باب الإحصار ، وإذا أحرم العبد أو الأمة بإذن المولى ثم باعهما نفذ البيع وللمشتري منعهما وتحليلهما وليس له الرد بالعيب خلافا لزفر قال : ليس له ذلك فله الرد بالعيب ، وعلى هذا الخلاف إذا أحرمت الحرة بحج نفل ثم تزوجت فللزوج أن يحللها عندنا خلافا له .

وجه قوله ما ذكره المصنف بقوله ( لأن هذا عقد سبق ملكه ) بنصب ملكه مفعولا لسبق : أي سبق وجوده ملك المشتري فليس له أن ينقضه ( كما إذا اشترى جارية منكوحة ) ليس له أن يفسخ نكاحها لهذا المعنى بعينه فكذا هذا . قلنا : المشتري في ملك الرقبة قائم مقام البائع ولم يكن للبائع ولاية إبطال النكاح وله التحليل وإن كره فكذا المشتري ، إلا أنه لا كراهة على المشتري لأنها في حق البائع بمكان خلف الوعد وهو منتف في المشتري .

ثم في أصل المسألة خلاف الشافعي ، فعنده ليس للسيد التحليل بعد الإذن ، واتفقنا على أن ليس للزوج تحليل الزوجة إذا أحرمت بنفل بإذنه ، وإنما له ذلك إذا أحرمت بلا إذن فقاس الشافعي على ذلك بجامع الإذن فيسقط حقه ، وقياسا على إبطال عمل نفسه بجامع الرضا بواسطة الإذن هنا ، ونحن نمنع عمل الإذن في السقوط مطلقا ، بل إن كان الثابت مجرد حق كما في الزوجة فإنه لا يملك منافعها ، وإنما له حق فيها فيسقط بالإذن . أما إن كان الثابت حقيقة الملك فلا إذ لا شك في أن الملك لا يسقط به .

وإنما عمله في التبرع [ ص: 176 ] بمنافعه وذلك لا يلزم دائما في المستقبل بل عمله في رفع المخالفة والمشاققة فيما أتاه ، فمتى نهاه كان ذلك منتهى عمل الإذن لما قلنا إنه لم يعمل في دوام السقوط في المستقبل وصار كالإذن في استخدام العبد لغيره وكتبوئتها مع الزوج له فيهما الرد إلى الاستخدام والمنع مما أذن فيه ، وهذا لأنه لا دليل على أنه جل جلاله أسقط الملك وآثاره بالإذن بالإحرام فبقي على ما عهد له من اللوازم ، بل عهد أنه جل ذكره قدم حق العبد على حقه عند التعارض لفقره وغنى العزيز العظيم .

هذا وإذا أحرمت الحرة بالفرض فليس له أن يحللها إن كان لها محرم عندنا ، فإن لم يكن لها فله منعها ، فإن أحرمت فهي محصرة لحق الشرع . فلذا إذا أراد الزوج تحليلها فإنها لا تتحلل إلا بالهدي ، بخلاف ما لو أحرمت بنفل بلا إذن فله أن يحللها ولا يتأخر تحليله إياها إلى ذبح الهدي بل يحللها من ساعته وعليها هدي لتعجيل الإحلال وحجة وعمرة لأن هناك لا حق للزوج في منعها لو وجدت محرما .

وإنما تعذر عليها الخروج لفقد المحرم شرعا فلا تتحلل إلا بالهدي ، وهنا قد تعذر الخروج لحق الزوج . فكما لا يكون لها أن تبطل حقه ليس لها أيضا أن تؤخره ، كذا في باب الإحصار من المبسوط . والتحليل أن ينهاها ويفعل بها أدنى ما يحرم بالإحرام كقص ظفر وتقبيل أو معانقة ، وهو أولى من التحليل بالجماع لأنه أعظم محظورات الإحرام حتى تعلق به الفساد فلا يفعله تعظيما لأمر الحج ، ولا يقع التحليل بقوله حللتك بل بفعله أو بفعلها بأمره كالامتشاط بأمره { لأنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : امتشطي وارفضي عمرتك حين حاضت في العمرة } .

ولو جامع زوجته أو أمته المحرمة ولا يعلم بإحرامها لم يكن تحليلا وفسد حجها ، وإن علمه كان تحليلا ، ولو حللها ثم بدا له أن يأذن لها فأذن فأحرمت بالحج ولو بعدما جامعها من عامها ذلك لم يكن عليها عمرة ولا نية القضاء ، ولو أذن لها بعد مضي السنة كان عليها عمرة مع الحج .

وقال زفر : عليهما العمرة فيهما ونية القضاء لأنهما تقررا في ذمتها برفض الحج فلا تخرج عن عهدتهما إلا بهما مع نية القضاء ، فلو لم تنو لم تخرج عن العهدة ، وفي هذا لا فرق بين عام الإحلال والعام القابل . قلنا : إن قلت بمجرد التحليل تقررا منعناه . بل اللازم عين تلك الحجة ما لم يمض الوقت . فإذا مضى بلا إيقاع فيه حينئذ لزمه مثلها وهو القضاء لأنه أداء مثل الواجب وذلك لا يتحقق إلا بعد خروج الوقت ، وصار كما إذا شرع في صلاة في وقتها ثم قطعها فيه ثم أداها فيه أيضا ، وإذا كان اللزوم ما لم تتحول السنة عين الواجب لم تلزمه عمرة ولا ينوي القضاء .

وعن هذا قلنا : لو حللها فأحرمت فحللها فأحرمت هكذا مرارا ثم حجت من عامها أجزأها عن كل التحللات تلك الحجة الواحدة ، ولو لم تحج بعد التحليلات إلا من قابل كان عليها لكل تحليل عمرة . هذا وقدمنا في باب الإحصار أنه إذا كان الإحصار في حجة الإسلام لا ينوي القضاء .

ولو تحولت السنة لأنها باقية في ذمته ما لم يؤدها ولم يخرج الوقت لتصير قضاء لأن وقتها العمر والتضيق في أول سنى الإمكان لا ينفيه لما حققنا في أول كتاب الحج من أن ذلك وجوب احتياط لا افتراض . وقد أجمعوا أن بالأداء بعد التأخير بلا عذر وتحمل الإثم يقع أداء ، وإذا أذن لأمته المتزوجة في الحج فليس لزوجها منعها لأن منافعها للسيد .



وهذه الخاتمة الموعودة وفيها ثلاثة مقاصد :

[ المقصد الأول في إيجاب الهدي وما يتبعه ] يثبت لزوم الهدي بنذره تنجيزا وتعليقا ، ولا فرق بين قوله لله علي أو علي هدي لأنه لا يكون إلا لله ، ولا يلزم إلا فيما يملك ، فلو قال إن فعلت كذا فهذا هدي لغير مملوك [ ص: 177 ] له ففعل لا شيء عليه إلا أن يكون ذلك المشار إليه ابنه ففيه القياس والاستحسان على ما سنذكر في نذر ذبح الولد وكذا لو قال ذلك لمملوك له فباعه ثم فعل ، ولو قال فهذا حر يوم أشتريه ففعل ثم اشتراه عتق ، ولو اشتراه قبل الفعل ثم فعل لا يعتق ، ولو قال إن فعلت فأنا أهدي كذا لزمه إذا فعل ، ويلزمه من إطلاق لفظ الهدي أمران : جواز ما يجزي في الأضحية من الشاة الضأن أو المعز أو الإبل أو البقر إلا أن ينوي بعيرا أو بقرة فيلزمه ذلك ، وأن لا يذبح إلا في الحرم ، فإن كان في أيام النحر فالسنة ذبحه بمنى وإلا ففي مكة ، وله أن يذبحه حيث شاء من أرض الحرم .



ولو قال علي أن أهدي جزورا تعين الإبل والحرم ، ولو قال جزور فقط جاز في غير الحرم كمصر والشام لأنه لم يذكر الهدي ، ولو قال بدنة فقط جاز البقرة والبعير حيث شاء إلا أن ينوي معينا من البدن . وعن أبي يوسف يتعين الحرم . فرق بينه وبين الجزور بأن اسم البدن لا يذكر في مشهور الاستعمال إلا في معنى المهداة ، ولو صرح بالهدي يتعين الحرم فكذا البدنة ، وظاهر المذهب خلافه إلا أن يزيد فيقول بدنة من شعائر الله ، ويمنع أن فيه نفلا شرعيا أو عرفيا بل كل منهما مشترك فيها ، وإذا ذبح الهدي في الحرم يتصدق به على مساكين الحرم ، وإن تصدق به على غيرهم أيضا جاز لأن معنى اسم الهدي لا يعين فقراء محل أصلا بل إنما ينبئ عن النقل إلى مكان وذلك هو الحرم إجماعا ، فتعين الحرم إنما هو لإفادة مأخذ اسم النقل ، ثم تعين المكان بالكتاب والإجماع فتعيين فقراء الحرم قول بلا دليل ، وهذا لأن القربة بالإهداء تتم بالنفل إلى الحرم والذبح به تعظيما له ، ولذا لو سرق لم يلزمه غيره وبذلك انتهى مدلوله ويصير لحما .

وجه القربة فيه شيء آخر هو التصدق ، وفي هذا مساكين الحرم وغيرهم سواء . وهل يجوز التصدق بالقيمة في الحرم في نذر الهدي كأن يقول هذه الشاة هدي ؟ في رواية أبي سليمان يجوز أن يهدي قيمتها ، وفي رواية أبي حفص لا يجوز . وجه الأولى اعتبار النذر بما أمر الله جل ذكره به من الغنم والإبل في الزكاة .

وجه رواية أبي حفص أن في اسم الهدي زيادة على مجرد اسم الشاة وهو الذبح ، فالقربة فيه تتعلق بالذبح ثم التصدق بعد ذلك تبع ، بخلاف الزكاة فإن القربة إنما تتعلق في الشاة بالصدقة وهو ثابت في القيمة فيجوز ، وليس الذبح ثابتا في قيمة الهدي فلا يجوز وهذا حسن . ومن نذر شاة فأهدى مكانها جزورا فقد أحسن ، وليس هذا من القيمة لثبوت الإراقة في البدن الأعلى كالأصل .



وقالوا : إذا قال لله علي أن أهدي شاتين فأهدى شاة تساوي شاتين قيمة لم يجزه ، فلو عين الهدي مما لا يذبح فيما يقبل النقل كالعبيد والقدور والثياب فقال إن فعلت فثوبي هذا هدي أو هذا القدر هدي أو هذا العبد جاز إهداء قيمته إلى مكة أو عينه ، ويجوز أن يعطي لحجبة البيت إذا كانوا فقراء ، وإن تصدق به أو بقيمته في غير مكة كالكوفة ومصر جاز لأن معنى القربة في الأمتعة ليس إلا التصدق وهو في حق أهل مكة وغيرهم سواء بخلاف الهدي بما يشرع ذبحه لأن معنى القربة فيه بالإراقة ولم تعرف قربة إلا في الحرم فيتعين الحرم ، وغاية ما فيه أنه نذر التصدق في مكان فتصدق في غيره ، وذلك جائز عندنا لأن النذر بما هو قربة والقربة إنما هي بالتصدق فينعقد النذر مجرد التصدق ، وإن كان مما لا ينقل كالدار والأرض تتعين القيمة إذا أراد الإيصال إلى مكة .

وقوله فهذه الشاة هدي إلى البيت [ ص: 178 ] أو مكة أو الكعبة موجب ، ولو قال إلى الحرم أو المسجد الحرام على الخلاف في التزام المشي إلى الحرم ، والمسجد الحرام عندهما موجب وعند أبي حنيفة لا .



وقوله هدي إلى الصفا والمروة لا يجب اتفاقا على ما سبق في المشي . فإن قيل : ينبغي أن يلزم هنا على قوله أيضا لأن مجرد ذكر الهدي موجب فزيادة ذكر الحرم لا ترفع الوجوب بعد الثبوت ، بخلاف المشي إلى الحرم لأن مجرد قوله علي المشي غير موجب بل مع ما يمشي إليه . أجيب بأن اسم الهدي إنما يوجب باعتبار ذكر مكة مضمرا بدلالة العرف ، فإذا نص على الحرم أو المسجد تعذر إضمار مكة في كلامه ، إذ قد صرح بمراده فلا يجب شيء به .

وقوله فثوبي هذا ستر للبيت أو أضرب به حطيم البيت ملزم استحسانا ، لأنه يراد بهذا اللفظ هديه .



ولو قال كل مالي أو جميعه هدي فعليه أن يهدي ماله كله ويمسك منه قدر قوته ، فإذا أفاد مالا تصدق بقدر ما أمسك . وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة أن الأصل فيما إذا قال مالي صدقة فقال في القياس ينصرف إلى كل مال له . وهو قول زفر . وفي الاستحسان ينصرف إلى مال الزكاة خاصة بخلاف ما إذا قال جميع ما أملك . فمن المشايخ من قال ما ذكره هنا جواب القياس لأن التزام الهدي في كل مال كالتزام الصدقة في كل مال .

والأصح الفرق بأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى ، وما أوجبه الله تعالى بلفظ الصدقة يختص بمال الزكاة ، فكذا ما يوجبه العبد على نفسه ، وهنا إنما أوجب بلفظ الهدي ، وما أوجبه الله تعالى بلفظ الهدي لا يختص بمال الزكاة .



وفي نوادر ابن سماعة لله علي أن أذبح ولم يقل صدقة لا شيء عليه . وعندي فيه نظر لأنه التزم بما من جنسه واجب إلا أن يقصد الذبح بنفسه .



ومن قال لله علي أن أنحر ولدي ففي القياس لا شيء عليه ، وفي الاستحسان يلزمه شاة ، ولو كان له أولاد لزمه مكان كل ولد شاة ، وكذا إذا نذر ذبح عبده عند أبي حنيفة وعند محمد يلزمه الشاة في الولد لا العبد ، وعند أبي يوسف لا يلزمه في واحد منهما .



[ المقصد الثاني في المجاورة ] اختلف العلماء في كراهة المجاورة بمكة وعدمها . فذكر بعض الشافعية أن المختار استحبابها إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذور ، وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله . وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى كراهتها ، وكان أبو حنيفة يقول : إنها ليست بدار هجرة ، وقال مالك وقد سئل عن ذلك : ما كان الناس يرحلون إليها إلا على نية الحج والرجوع وهو أعجب ، وهذا أحوط لما في خلافه من تعريض النفس على الخطر إذ طبع الإنسان التبرم والملل من توارد ما يخالف هواه في المعيشة وزيادة الانبساط المخل بما يجب من الاحترام لما يكثر تكرره عليه ومداومة نظره إليه .

وأيضا الإنسان محل الخطإ كما قال عليه الصلاة والسلام { كل بني آدم خطاء } والمعاصي تضاعف على ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه إن صح ، وإلا فلا شك أنها في حرم الله أفحش وأغلظ فتنهض سببا لغلظ الموجب وهو العقاب .

ويمكن كون هذا هو محمل المروي من التضاعف كي لا يعارض قوله تعالى { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } أعني أن السيئة تكون فيه سببا لمقدار من العقاب هو أكثر من مقداره عنها في غير الحرم إلى أن يصل إلى مقدار عقاب سيئات منها في غيره ، والله أعلم . وكل من هذه الأمور سبب لمقت الله تعالى ، وإذا كان هذا سجية الشر فالسبيل النزوح عن ساحته ، وقل من يطمئن إلى نفسه في دعواها البراءة من هذه الأمور إلا وهو في ذلك مغرور . [ ص: 179 ] ألا يرى أن ابن عباس رضي الله عنهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المحببين إليه المدعو له كيف اتخذ الطائف دارا وقال : لأن أذنب خمسين ذنبا بركبة وهو موضع بقرب الطائف أحب إلي من أن أذنب ذنبا واحدا بمكة .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما من بلدة يؤاخذ العبد فيها بالهمة قبل العمل إلا مكة ، وتلا هذه الآية { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } وقال سعيد بن المسيب للذي جاء من أهل المدينة يطلب العلم : ارجع إلى المدينة فإنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل لما يستحل من حرمها .

وعن عمر رضي الله عنه قال : خطيئة أصيبها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة بغيرها . نعم أفراد من عباد الله استخلصهم وخلصهم من مقتضيات الطباع فأولئك هم أهل الجوار الفائزون بفضيلة من تضاعف الحسنات والصلوات من غير ما يحبطها من الخطيئات والسيئات في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي } وفي رواية لأحمد عن ابن عمر سمعته : يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول { من طاف أسبوعا بالبيت وصلى ركعتين كان كعدل رقبة } وقال سمعته يقول { ما رفع رجل قدما ولا وضعها إلا كتب الله له عشر حسنات وحط عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات } .

وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام { من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر كتب له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها ، وكتب الله له بكل يوم عتق رقبة ، وبكل ليلة عتق رقبة ، وكل يوم حملان فرس في سبيل الله } ولكن الفائز بهذا مع السلامة من إحباطه أقل القليل ، فلا يبنى الفقه باعتبارهم ولا يذكر حالهم قيدا في جواز الجوار لأن شأن النفوس الدعوى الكاذبة والمبادرة إلى دعوى الملكة والقدرة على ما يشترط فيما تتوجه إليه وتطلبه ، وإنها لأكذب ما يكون إذا حلفت فكيف إذا ادعت ، والله أعلم .

وعلى هذا فيجب كون الجوار في المدينة المشرفة كذلك ، فإن تضاعف السيئات أو تعاظمها وإن فقد فيها فمخافة السآمة وقلة الأدب المفضي إلى الإخلال بواجب التوقير والإجلال قائم . وهو أيضا مانع إلا للأفراد ذوي الملكات فإن مقامهم وموتهم فيها هي السعادة الكاملة . في صحيح مسلم { لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا } وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم { من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإني أشفع لمن يموت بها } .



[ المقصد الثالث : في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ] قال مشايخنا رحمهم الله تعالى : من أفضل المندوبات وفي مناسك الفارسي وشرح المختار أنها قريبة من الوجوب لمن له سعة . روى الدارقطني والبزار عنه عليه الصلاة والسلام { من زار قبري وجبت له شفاعتي } وأخرج الدارقطني عنه عليه الصلاة والسلام { من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة } وأخرج الدارقطني أيضا { من حج وزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي } هذا والحج إن كان فرضا فالأحسن أن يبدأ به ثم يثني بالزيارة ، وإن كان تطوعا كان بالخيار ، فإذا نوى زيارة القبر فلينو معه زيارة المسجد : أي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 180 ] فإنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال .

في الحديث { لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى } وإذا توجه إلى الزيارة يكثر من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم مدة الطريق ، والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النية لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا حصل له إذا قدم زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله سبحانه في مرة أخرى ينويهما فيها لأن في ذلك زيادة تعظيمه صلى الله عليه وسلم وإجلاله ، ويوافق ظاهر ما ذكرناه من قوله عليه الصلاة والسلام { لا تعمله حاجة إلا زيارتي } وإذا وصل إلى المدينة اغتسل بظاهرها قبل أن يدخلها أو توضأ والغسل أفضل ، ولبس نظيف ثيابه والجديد أفضل ، وما يفعله بعض الناس من النزول بالقرب من المدينة والمشي على أقدامه إلى أن يدخلها حسن ، وكل ما كان أدخل في الأدب والإجلال كان حسنا .

وإذا دخلها قال : باسم الله { رب أدخلني مدخل صدق } الآية ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك وارزقني من زيارة رسولك صلى الله عليه وسلم ما رزقت أولياءك وأهل طاعتك ، واغفر لي وارحمني يا خير مسئول ، وليكن متواضعا متخشعا معظما لحرمتها لا يفتر عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مستحضرا أنها بلدته التي اختارها الله تعالى دار هجرة نبيه ومهبطا للوحي والقرآن ومنبعا للإيمان والأحكام الشرعية . قالت عائشة رضي الله عنها : كل البلاد افتتحت بالسيف إلا المدينة فإنها افتتحت بالقرآن العظيم .

وليحضر قلبه أنه ربما صادف موضع قدمه ، ولذا كان مالك رحمه الله ورضي عنه لا يركب في طرق المدينة ، وكان يقول : أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة .

وإذا دخل المسجد فعل ما هو السنة في دخول المساجد من تقديم اليمين ويقول : اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، ويدخل من باب جبريل أو غيره ، ويقصد الروضة الشريفة وهي بين المنبر والقبر الشريف ، فيصلي تحية المسجد مستقبلا السارية التي تحتها الصندوق بحيث يكون عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن إن أمكنه ، وتكون الحنية التي في قبلة المسجد بين عينيه ، فذلك موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قيل قبل أن يغير المسجد . وفي بعض المناسك : يصلي تحية المسجد في مقامه عليه الصلاة والسلام وهو الحفرة . قال الكرماني وصاحب الاختيار : ويسجد لله شكرا على هذه النعمة ويسأله تمامها والقبول . وقيل ذرع ما بين المنبر وموقفه عليه الصلاة والسلام الذي كان يصلي فيه أربعة عشر ذراعا وشبر ، وما بين المنبر والقبر ثلاث وخمسون ذراعا وشبر ، ثم يأتي القبر الشريف فيستقبل جداره ويستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من السارية التي عند رأس القبر في زاوية جداره .

وما عن أبي الليث أنه يقف مستقبل القبلة مردود بما روى أبو حنيفة رضي الله عنه في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : من السنة أن تأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، إلا أن يحمل على نوع ما من استقبال القبلة ، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام في القبر الشريف المكرم على شقه الأيمن مستقبل القبلة . وقالوا في زيارة القبور مطلقا : الأولى أن يأتي الزائر من قبل رجل المتوفى لا من قبل رأسه فإنه أتعب لبصر الميت ، بخلاف الأول لأنه يكون مقابلا بصره لأن بصره ناظر إلى جهة قدميه إذا كان على جنبه فعلى هذا تكون القبلة عن يسار الواقف من جهة قدميه عليه الصلاة والسلام بخلاف ما إذا كان من جهة وجهه الكريم ، فإذا أكثر الاستقبال إليه عليه الصلاة والسلام لا كل [ ص: 181 ] الاستقبال بكون استدباره القبلة أكثر من أخذه إلى جهتها فيصدق الاستدبار ونوع من الاستقبال .

وينبغي أن يكون وقوف الزائر على ما ذكرنا ، بخلاف تمام استدبار القبلة واستقباله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون البصر ناظرا إلى جنب الواقف ، وعلى ما ذكرنا يكون الواقف مستقبلا وجهه عليه الصلاة والسلام وبصره فيكون أولى ، ثم يقول في موقفه : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا خير خلق الله ، السلام عليك يا خيرة الله من جميع خلقه ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا سيد ولد آدم ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته يا رسول الله ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وأشهد أنك يا رسول الله قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وكشفت الغمة ، فجزاك الله عنا خيرا ، جازاك الله عنا أفضل ما جازى نبيا عن أمته .

اللهم أعط سيدنا عبدك ورسولك محمدا الوسيلة والفضيلة ، والدرجة العالية الرفيعة ، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته ، وأنزله المنزل المقرب عندك ، إنك سبحانك ذو الفضل العظيم . ويسأل الله تعالى حاجته متوسلا إلى الله بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام . وأعظم المسائل وأهمها سؤال حسن الخاتمة والرضوان والمغفرة ، ثم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة فيقول . يا رسول الله أسألك الشفاعة ، يا رسول الله أسألك الشفاعة وأتوسل بك إلى الله في أن أموت مسلما على ملتك وسنتك ، ويذكر كل ما كان من قبيل الاستعطاف والرفق به ، ويجتنب الألفاظ الدالة على الإدلال والقرب من المخاطب فإنه سوء أدب . وعن ابن أبي فديك قال : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية { إن الله وملائكته يصلون على النبي } الآية ، ثم قال : صلى الله عليه وسلم يا محمد سبعين مرة ، ناداه ملك صلى الله عليه وسلم وعليك يا فلان ولم تسقط له حاجة .

هذا وليبلغ سلام من أوصاه بتبليغ سلامه فيقول : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان أو فلان بن فلان يسلم عليك يا رسول الله . يروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يوصي بذلك ويرسل البريد من الشام إلى المدينة الشريفة بذلك ، ومن ضاق وقته عما ذكرناه اقتصر على ما يمكنه .

وعن جماعة من السلف الإيجاز في ذلك جدا ، ثم يتأخر عن يمينه إذا كان مستقبلا قيد ذراع فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه ، فإن رأسه حيال منكب النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى ما ذكرنا يكون تأخره إلى ورائه بجانبه فيقول : السلام عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثانيه في الغار أبا بكر الصديق ، جزاك الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرا ، ثم يتأخر كذلك قدر ذراع فيسلم على عمر رضي الله عنه ، لأن رأسه من الصديق كرأس الصديق من النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين عمر الفاروق الذي أعز الله به الإسلام ، جزاك الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرا ، ثم يرجع إلى حيال وجه النبي صلى الله عليه وسلم فيحمد الله ويثني عليه ويصلي ويسلم على نبيه ويدعو ويستشفع له ولوالديه ولمن أحب ، ويختم دعاءه بآمين والصلاة والتسليم .

وقيل ما ذكر من العود إلى رأس القبر الشريف لم ينقل عن الصحابة ولا التابعين . وأخرج أبو داود عن القاسم بن محمد قال : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت : يا أم المؤمنين اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه [ ص: 182 ] فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء ، رواه الحاكم .

وزاد : { فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدما ، وأبا بكر رأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمر رأسه عند رجل النبي صلى الله عليه وسلم } ، صححه الحاكم . وإذا فرغ من الزيارة يأتي الروضة فيكثر فيها من الصلاة والدعاء إن لم يكن وقت تكره فيه الصلاة .

ففي الصحيحين { ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة } وفي رواية { قبري ومنبري } ويقف عند المنبر ويدعو ، ففي الحديث { قواعد منبري رواتب في الجنة } وعنه عليه الصلاة والسلام { منبري على ترعة من ترع الجنة } وكان السلف يستحبون أن يضع أحدهم يده على رمانة المنبر النبوي التي كان عليه الصلاة والسلام يضع يده عليها عند الخطبة ، وهناك الآن قطعة تدخل الناس أيديهم من طاقة في المنبر إليها يتبركون بها يقال إنها من بقايا منبره عليه الصلاة والسلام ، ويجتهد أن لا يفوته مدة مقامه صلاة في المسجد . فقد ثبت أن صلاة في مسجده تعدل ألف صلاة في غيره على ما قدمنا ، وهذا التفضيل مختص بالفرائض .

وقيل في النفل أيضا ، ولعلنا قدمنا ما ينفيه في كتاب الصلاة ، وقد اشتهر عنه عليه الصلاة والسلام أن {أفضل صلاة الرجل في منزله إلا المكتوبة } ، وهذا قاله وهو في المدينة يشافه به الحاضرين عنده في المسجد والغائبين ، ثم هو صلى الله عليه وسلم لم يؤثر عنه التنفل في المسجد بل في بيته من التهجد وركعتي الفجر وغيرها ، ولو كان كذلك لم يصل نافلة إلا في المسجد ، أو يكون ذلك هو الأكثر ، وخلافه قليل في بعض الأحايين خصوصا ومن بيته إلى المسجد نقل قدما واحدة .

وقد يقال أيضا إن ذلك إنما هو في حق الرجال لأنه صلى الله عليه وسلم أمر المرأة التي سألته الحضور والصلاة معه أن تصلي في بيتها مع أن الخروج لهن كان مباحا إذ ذاك ، وقد قدمنا تخريج هذا الحديث في باب الإمامة من كتاب الصلاة . فعلم أن إطلاق الخروج لهن إذ ذاك كان ليتعلمن ما يشاهدنه من آداب الصلاة وحسن أداء الناس وغير ذلك من العلم ويتعودن المواظبة ولا يستثقلن الصلاة في البيت وغير ذلك من المصالح والله أعلم .



ويستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع بقيع الغرقد ، فيزور القبور التي بها خصوصا يوم الجمعة ، ويبكر كي لا تفوته صلاة الظهر مع الإمام في المسجد ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يزوره { وقال لأم قيس بنت محصن لما أخذ بيدها فذهبا إليه : ترين هذه المقبرة ؟ قلت نعم . قال : يبعث منها سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر ويدخلون الجنة بغير حساب } وإذا انتهى إليه قال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ، اللهم اغفر لنا ولهم .

ويزور القبور المشهورة كقبر عثمان بن عفان رضي الله عنه وقبر العباس وهو في قبته المشهورة ، وفيها قبران الغربي منهما قبر العباس رضي الله عنه والشرقي قبر الحسن بن علي وزين العابدين وولده محمد الباقر وابنه جعفر الصادق رضي الله عنهم كلهم في قبر واحد ، وعند باب البقيع عن يسار الخارج قبر صفية أم الزبير عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه قبر فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما ، ويصلي في مسجد فاطمة بنت رسول الله بالبقيع وهو المعروف ببيت الأحزان ، وقيل قبرها فيه ، وقيل بل في الصندوق الذي هو أمام مصلى الإمام في الروضة الشريفة ، واستبعده [ ص: 183 ] بعض العلماء .

وقيل إن قبرها في بيتها وهو في مكان المحراب الخشب الذي خلف الحجرة الشريفة داخل الداربزين قال : وهو الأظهر . وبالبقيع قبة يقال إن فيها قبر عقيل بن أبي طالب وابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب . والمنقول أن قبر عقيل في داره ، وفيه حظيرة مستهدمة مبنية بالحجارة يقال إن فيها قبور من دفن من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن ، وفيه قبر إبراهيم ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مدفون إلى جنب عثمان بن مظعون ، ودفن إلى جنب عثمان بن مظعون عبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم أجمعين . وعثمان هذا أول من دفن بالبقيع في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة .



ويأتي أحدا يوم الخميس مبكرا كي لا تفوته جماعة الظهر بالمسجد فيزور قبور شهداء أحد ، ويبدأ بقبر حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ويزور جبل أحد نفسه ، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { أحد جبل يحبنا ونحبه } وفي رواية لابن ماجه { أنه على ترعة من ترع الجنة وأن عيرا على ترعة من ترع النار } وعن ابن عمر رضي الله عنهما { مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصعب بن عمير فوقف عليه وقال : أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم وسلموا عليهم ، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة }



ويستحب أن يأتي مسجد قباء يوم السبت اقتداء به صلى الله عليه وسلم لأنه { كان يأتيه في كل سبت راكبا وماشيا } . متفق عليه ، وهو أول مسجد وضع في الإسلام ، وأول من وضع فيه حجرا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم وينوي زيارته والصلاة فيه ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم { أن الصلاة فيه كعمرة } ويأتي في قباء بئر أريس التي تفل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها سقط خاتمه صلى الله عليه وسلم من عثمان رضي الله عنه ، فيتوضأ ويشرب ويزور مسجد الفتح وهو على قطعة من جبل سلع من جهة الغرب فيركع فيه ويدعو .

روى جابر { أنه صلى الله عليه وسلم دعا فيه ثلاثة أيام على الأحزاب فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين } . والمساجد التي هناك منها مسجد يقال له مسجد بني ظفر وفيه حجر جلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقال ما جلست عليه امرأة تريد الولد إلا حبلت ، ويقال إن جميع المساجد والمشاهد المفضلة التي بالمدينة ثلاثون يعرفها أهل المدينة ، ويقصد الآبار التي كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ منها ويشرب وهي سبعة منها بئر بضاعة ، والله أعلم .



( فصل )

وإذا عزم على الرجوع إلى أهله يستحب له أن يودع المسجد بصلاة ويدعو بعدها بما أحب ، وأن يأتي القبر الكريم فيسلم ويدعو بما أحب له ولوالديه وإخوانه وأولاده وأهله وماله ، ويسأل الله تعالى أن يوصله إلى أهله سالما غانما في عافية من بليات الدنيا والآخرة ويقول : غير مودع يا رسول الله ، ويسأل إن شاء الله تعالى أن يرده إلى حرمه وحرم نبيه في عافية . وليكثر دعاءه بذلك في الروضة الشريفة عقيب الصلوات وعند القبر ، ويجتهد في خروج الدمع فإنه من أمارات القبول ، وينبغي أن يتصدق بشيء على جيران النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينصرف [ ص: 184 ] متباكيا متحسرا على فراق الحضرة الشريفة النبوية والقرب منها .

ومن سنن الرجوع أن يكبر على كل شرف من الأرض ويقول { آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون ، صدق الله وعده . ونصر عبده . وهزم الأحزاب وحده } . وهذا متفق عليه عنه صلى الله عليه وسلم { كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } . وليحذر كل الحذر مما يصدر من بعض الجهلة من إظهار التندم على السفر والعزم على عدم العود .

وقوله لغيره احذر أن تعود ونحو ذلك فهذا كله تعرض للمقت بل دليل عدم القبول والمقت في الحال . وإذا أشرف على بلده حرك دابته ويقول : آيبون أيضا إلخ .

وروى النسائي { أنه عليه الصلاة والسلام لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها : اللهم رب السموات السبع وما أظللن . ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما ذرين . فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ، ويقول : اللهم اجعل لي فيها قرارا ورزقا حسنا } ويرسل إلى أهله من يخبرهم ولا يبغتهم بمجيئه داخلا عليهم ، فإنه نهى عن ذلك ، وإذا دخلها بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين إن لم يكن وقت كراهة ، ثم يدخل منزله ويصلي فيه ركعتين ويحمد الله تعالى ويشكره ما أولاه من إتمام العبادة والرجوع بالسلامة ، ويديم حمده وشكره مدة حياته ، ويجتهد في مجانبة ما يوجب الإحباط في باقي عمره . وعلامة الحج المبرور أن يعود خيرا مما كان قبل .

( قال المصنف متع الله المسلمين بوجوده )

وهذا تمام ما يسر الله سبحانه لعبده الضعيف من ربع العبادات . أسأل الله رب العالمين ذا الجود العميم أن يحقق لي فيه الإخلاص ويجعله نافعا لي يوم القيامة . إنه على كل ما يشاء قدير وبالإجابة جدير . والآن أشرع بريئا من الحول والقوة مفتتحا كتاب النكاح . سائلا من فضله تعالى أن يمن علي بختم الربع الثاني وإكمال مقاصده على وجه يرضاه ويرضى به عن عبده ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه عبده ورسوله صاحب الشرع القويم والصراط المستقيم .




الخدمات العلمية