الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وإذا ثبت أن رضاع الكبير لا يحرم ورضاع الصغير محرم فلا بد من بيان الحد الفاصل بين الصغير والكبير في حكم الرضاع وهو بيان مدة الرضاع المحرم وقد اختلف فيه قال أبو حنيفة : ثلاثون شهرا ولا يحرم بعد ذلك سواء فطم أو لم يفطم ، وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - : حولان لا يحرم بعد ذلك فطم أو لم يفطم ، وهو قول الشافعي وقال زفر : ثلاثة أحوال وقال بعضهم : خمس عشرة سنة .

                                                                                                                                وقال بعضهم : أربعون سنة .

                                                                                                                                احتج أبو يوسف ومحمد بقوله { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } جعل الله تعالى الحولين الكاملين تمام مدة الرضاع وليس وراء التمام شيء وبقوله تعالى { وفصاله في عامين } وقوله عز وجل { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وأقل مدة الحمل ستة أشهر فبقي مدة الفصال حولين .

                                                                                                                                وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا رضاع بعد الحولين } وهذا نص في الباب ولأبي حنيفة قوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } أثبت الحرمة بالرضاع مطلقا عن التعرض لزمان الإرضاع إلا أنه أقام الدليل على أن زمان ما بعد الثلاثين شهرا ليس بمراد فيعمل بإطلاقه فيما وراءه وقوله تعالى { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور } والاستدلال به من وجهين : أحدهما : أنه أثبت لهما إرادة الفصال بعد الحولين ; لأن الفاء للتعقيب فيقتضي بقاء الرضاع بعد الحولين ليتحقق الفصال بعدهما والثاني أنه أثبت لهما إرادة الفصال مطلقا عن الوقت ، ولا يكون الفصال إلا عن الرضاع فدل على بقاء حكم الرضاع في مطلق الوقت إلى أن يقوم الدليل على التقييد وقوله تعالى { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أثبت لهما إرادة الاسترضاع مطلقا عن الوقت فمن ادعى التقييد بالحولين فعليه الدليل ولأن الإرضاع إنما يوجب الحرمة لكونه منبتا للحم منشزا للعظم على ما نطق به الحديث .

                                                                                                                                ومن المحال عادة أن يكون منبتا للحم إلى الحولين ثم لا ينبت بعد الحولين بساعة لطيفة ; لأن الله تعالى ما أجرى العادة بتغيير الغذاء إلا بعد مدة معتبرة ; ولأن المرأة قد تلد في البرد الشديد والحر الشديد فإذا تم على الصبي سنتان ; لا يجوز أن تؤمر المرأة بفطامه ; لأنه يخاف منه الهلاك على الولد ; إذ لو لم يعود بغيره من الطعام ; فلا بد وأن تؤمر بالرضاع ومحال أن تؤمر بالرضاع ويحرم عليها الرضاع في وقت واحد فدل أن الرضاع بعد الحولين يكون رضاعا إلا أن أبا حنيفة استحسن في تقديره مدة إبقاء حكم الرضاع بعد الحولين بستة أشهر ; لأنه أقل مدة تغير الولد فإن الولد يبقى في بطن أمه ستة أشهر يتغذى بغذائها ثم ينفصل فيصير أصلا في الغذاء وزفر اعتبر بعد الحولين سنة كاملة فقال : لما ثبت حكم الرضاع في ابتداء السنة الثالثة - لما قاله أبو حنيفة - ; يثبت في بقيتها كالسنة الأولى والثانية .

                                                                                                                                وأما الآية الأولى ففيها أن الحولين مدة الرضاع في حق من أراد تمام الرضاعة وهذا لا ينفي أن يكون الزائد على الحولين مدة الرضاع في حق من لم يرد أن يتم الرضاعة مع ما أن ذكر الشيء بالتمام لا يمنع من احتمال الزيادة عليه .

                                                                                                                                ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم { من أدرك عرفة فقد تم حجه } وهذا لا يمنع زيادة الفرض عليه فإن طواف الزيارة من فروض الحج على أن في الآية الكريمة أن الحولين تمام مدة الرضاع لكنها تمام مدة الرضاع في حق الحرمة أو في حق وجوب أجر الرضاع على الأب فالنص لا يتعرض له ، وعندهما : تمام مدة الرضاع في حق وجوب الأجر على الأب حتى أن الأم المطلقة إذا طلبت الأجر بعد الحولين - ولا ترضع بلا أجر - ; لم يجبر الأب على أجر الرضاع فيما زاد على الحولين أو تحمل الآية على هذا [ ص: 7 ] توفيقا بين الدلائل ; لأن دلائل الله عز وجل لا تتناقض .

                                                                                                                                وأما الآية الثانية فالفصال في عامين لا ينفي الفصال في أكثر من عامين كما لا ينفيه في أقل من عامين عن تراض منهما وتشاور فكان هذا استدلالا بالمسكوت كقوله عز وجل { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } الآية أنه لا يمنع جواز الكتابة إذا لم يعلم فيهم خيرا .

                                                                                                                                وأما الآية الثالثة فتحتمل ما ذكرتم أن المراد من الحمل هو الحمل بالبطن والفصال هو الفطام فيقتضي أن تكون مدة الرضاع سنتين ومدة الحمل ستة أشهر كما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتحتمل أن يكون المراد من الحمل الحمل باليد والحجر ، فيقتضي أن يكون الثلاثون مدة الحمل والفصال جميعا ; لأنه يحمل باليد والحجر في هذه المدة غالبا لا أن يكون بعض هذه المدة مدة الحمل وبعضها مدة الفصال ; لأن إضافة السنتين إلى الوقت لا تقتضي قسمة الوقت عليهما بل تقتضي أن يكون جميع ذلك الوقت مدة لكل واحد منهما كقول القائل : صومك وزكاتك في شهر رمضان .

                                                                                                                                هذا لا يقتضي قسمة الشهر عليهما بل يقتضي كون الشهر كله وقتا لكل واحد منهما فيقتضي أن يكون الثلاثون شهرا مدة الرضاع كما هو مذهب أبي حنيفة فلا يكون حجة مع الاحتمال .

                                                                                                                                على أنه وقع التعارض بين الآيات ظاهرا لكن ما تلونا حاظر وما تلوتم مبيح والعمل بالحاظر أولى احتياطا وأما الحديث فالمشهور : { لا رضاع بعد فصال } .

                                                                                                                                ونحن نقول بموجبه فجائز أن يكون أصل الحديث هذا وأن من ذكر الحولين حمله على المعنى عنده ، ولو ثبت هذا اللفظ فيحتمل أن يكون معناه الإرضاع على الأب بعد الحولين أي في حق وجوب الأجر عليه على ما ذكرنا من تأويل الآية أو يحمل على هذه عملا بالدلائل كلها والله الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية