الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 405 ] ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله، وإلى الإيمان بشرع الله، فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر، فأخطئوا في التكذيب به، وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول: إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمة ولا لرحمة، ولا يسوي بين المتماثلين، بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح. واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح.

وهذا أصل مذهب القدرية النفاة، ولهذا قالوا: إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى، وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعا، وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه، وظن أولئك أنه لا يمكن إبطال قولهم إلا بأن يقال: الظلم ممتنع لذاته، وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل، حتى تعذيب الأنبياء والصالحين، وتنعيم الكفار والفاسقين، إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر، وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم.

وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس، وكذلك أمر أطفال المشركين: طائفة يقولون: يعذبهم كلهم، أو يمكن تعذيبهم كلهم، بناء على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة. [ ص: 406 ]

وطائفة تقول: بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحا، بناء على رحمة بلا حكمة، وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار، وبين من آمن وعمل صالحا ومن لم يؤمن ويعمل صالحا، من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق.

وهذه المسائل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها، فإن الله أكمل الدين، وأتم النعمة. وقد « قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» .

وفي الصحيح « عن أبي ذر رضي الله عنه قال: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما» .

وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

وقال تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [سورة طه:123]. قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.

وقد قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [سورة البقرة:213]، فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه. [ ص: 407 ]

وقال الله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [سورة النساء:59].

فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله، يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها، لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها، ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص، فإن الله يختص من يشاء من عباده من العلم والفهم بما يشاء، فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم، أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن، ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن.

ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس، وهو قوله: إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا، شك الراوي، حتى يتكلموا في الولدان والقدر، وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقا. قال له ابن المبارك: أفيسكت الإنسان على الجهل؟ وقد صدق ابن المبارك، فقال له يحيى بن آدم: أفتأمر بالكلام؟ فسكت ابن المبارك، لأن أمره بالكلام مطلقا يتضمن الإذن [ ص: 408 ] بالكلام الذي وقع من الناس، وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية