الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) رجل أهل بعمرتين معا فسار إلى مكة ليقضيهما ثم أحصر قال يبعث بالهدي لواحد . والأصل في هذه المسألة أن نقول : من أحرم بعمرتين معا أو بحجتين معا انعقد إحرامه بهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ، وقال محمد والشافعي رحمهما الله تعالى : ينعقد إحرامه بأحدهما لأن الإحرام غير مقصود لعينه بل لأداء الأفعال به ، ولا يتصور أداء حجتين في سنة واحدة ، ولا أداء عمرتين في وقت واحد ، والعقد إذا خلا عن مقصوده لا يكون منعقدا أصلا فإذا خلا أحد العقدين هنا عما هو مقصود لم ينعقد الإحرام إلا بأحدهما ، وقاسا بالصوم والصلاة فإن من شرع في صومين في يوم واحد ، وفي صلاتين بتكبيرة واحدة لا يصير شارعا إلا في أحدهما ، وهذا على أصل الشافعي رحمه الله تعالى واضح لأن عنده الإحرام من الأركان ، ولهذا لا ينعقد الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عنده ، وعند محمد رحمه الله تعالى وإن كان الإحرام من الشرائط ففي بعض الأحكام جعل من الأركان . ألا ترى أن فائت الحج ليس له أن يستديم الإحرام إلى أن يؤدي الحج به في السنة القابلة ، ولو كان من الشرائط لكان له ذلك كما في الطهارة للصلاة فإذا كان من الأركان فهو بمنزلة سائر الأعمال لا يتصور اجتماع المثنى منه في وقت واحد كالوقوف لحجتين والطواف لعمرتين وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا لا تنافي بين العقدين بدليل أنه يثبت أحدهما وهما متساويان ، والأصل أنه إذا كان منافاة بين العقدين المتساويين أن لا يثبت أحدهما كنكاح الأختين معا ، وإذا ثبت أنه لا منافاة انعقد الإحرام ثم أداء الأفعال لا يتصل بالإحرام ، والتنافي بينهما في أداء الأفعال ، وإذا كان أداء الأفعال لا يتصل بالإحرام لا يمنع انعقاد الإحرام بهما بخلاف الصوم والصلاة فالشروع هناك من الأداء ، ويتصل به الأداء والوقت معيار الصوم فلا يتصور أداء الصومين في وقت واحد ثم الإحرام سبب لالتزام الأداء من غير أن يتصل به الأداء فيكون بمنزلة النذر .

والنذر بالعمرتين صحيح ، وقد بينا فيما سبق أن الإحرام من جملة الشرائط ابتداء ، وإن أعطي له حكم الأركان انتهاء فكان بمنزلة الطهارة للصلاة فلا تتحقق المنافاة فيه كمن تطهر لأداء الصلاتين إذا عرفنا هذا فنقول عند أبي يوسف رحمه الله تعالى من عقد إحرامه بهما يصير رافضا لأحدهما لأنه كما فرغ من الإحرام جاء أوان أداء الأعمال ، والمنافاة ملتحقة فيصير رافضا لأحدهما ، وعليه دم لرفضها ، ويمضي في الآخر فإن كان أحرم بعمرتين فعليه [ ص: 116 ] قضاء العمرة التي رفضها ، وإن كان إحرامه بحجتين فعليه قضاء عمرة وحجة لرفض أحدهما ، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يصير رافضا لأحدهما ما لم يشتغل بالعمل للآخر ، ففي ظاهر الرواية كما يسير إلى مكة لأداء الأعمال يصير رافضا لأحدهما ، وفي الرواية الأخرى ما لم يأخذ في الطواف لا يصير رافضا لأحدهما لأنه لما لم يتناف الإحرامان ابتداء لا يتنافيان بقاء بل البقاء أسهل من الابتداء ، وإنما المنافاة في الأعمال فما لم يشتغل بعمل أحدهما لا يصير رافضا للآخر ، وفائدة هذا الاختلاف إنما تظهر فيما إذا أحصر قبل أن يسير إلى مكة . قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث بهديين للتحلل لأنه محرم بإحرامين ، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يبعث بهدي واحد لأنه صار رافضا لأحدهما فإنما أحصر ، وهو حرام بإحرام واحد ، وعند محمد رحمه الله تعالى لم ينعقد إلا إحرام واحد فلا يبعث إلا بهدي واحد ، وإن كان سار إلى مكة ثم أحصر فإنما يبعث بهدي واحد لأنه صار رافضا لأحدهما حين سار في عمل الآخر فعليه دم للرفض ، ودم آخر للتحلل فأما حكم القضاء فإن أهل بعمرتين فعليه قضاء عمرتين ، وإن كان أهل بحجتين فعليه قضاء حجتين ، وعمرتين

التالي السابق


الخدمات العلمية