الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 103 ] 10 - باب

                                التبكير إلى العيد

                                وقال عبد الله بن بسر: إن كنا قد فرغنا في هذه الساعة، وذلك حين التسبيح.

                                925 968 - حدثنا سليمان بن حرب: نا شعبة، عن زبيد، عن الشعبي، عن البراء، قال: خطبنا النبي - صلى الله عليه وسلم- يوم النحر، فقال: " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر " .

                                التالي السابق


                                ثم ذكر بقية الحديث - يعني حديث آدم ، عن شعبة - وقد سبق قريبا، إلا أنه قال: " اجعلها مكانها" - أو قال-: " اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك ".

                                وجه الاستدلال بحديث البراء على التبكير بصلاة العيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أخبر أن أول ما يبدأ به في يوم النحر الصلاة، ثم النحر بعد رجوعه، والمراد باليوم هاهنا: ما بعد طلوع الشمس، فإنه لا يجوز صلاة العيد قبل ذلك بالاتفاق.

                                وهذا مما يرد قول من قال من أصحابنا بجواز صلاة الجمعة قبل طلوع الشمس .

                                وقد يستدل به من يرى أن صلاة العيد تجوز قبل زوال وقت النهي.

                                ويجاب عنه بأن ذكره أول ما يبدأ به في وقت متسع، لا يلزم منه أن يكون [ ص: 104 ] فعله له في أول ذلك الوقت.

                                وقال الشافعي : أنا الثقة، أن الحسن كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس، فيتتام طلوعها.

                                وأما حديث عبد الله بن بسر الذي ذكره تعليقا:

                                فخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث يزيد بن خمير الرحبي ، قال: خرج عبد الله بن بسر - صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم مع الناس في يوم عيد فطر - أو أضحى- فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح.

                                والمراد بصلاة التسبيح: صلاة الضحى.

                                والمراد بحينها: وقتها المختار، وهو إذا اشتد الحر.

                                فهذا التأخير هو الذي أنكره عبد الله بن بسر ، ولم ينكر تأخيرها إلى أن يزول وقت النهي; فإن ذلك هو الأفضل بالاتفاق، فكيف ينكره؟!

                                وقد اختلف في أول وقت صلاة العيد :

                                فقال أبو حنيفة وأحمد : أول وقتها إذا ارتفعت الشمس، وزال وقت النهي.

                                وهو أحد الوجهين للشافعية.

                                والثاني - لهم-: أول وقتها إذا طلعت الشمس، وإن لم يزل وقت النهي.

                                وهو قول مالك .

                                ويتخرج لأصحابنا مثله، على قولهم: إن ذوات الأسباب كلها تفعل في أوقات النهي.

                                [ ص: 105 ] وقد خرجه بعضهم في صلاة الاستسقاء، وصلاة العيد مثلها.

                                وعمل السلف يدل على الأول; فإنه قد روي عن ابن عمر ورافع بن خديج وجماعة من التابعين، أنهم كانوا لا يخرجون إلى العيد حتى تطلع الشمس، وكان بعضهم يصلي الضحى في المسجد قبل أن يخرج إلى العيد.

                                وهذا يدل على أن صلاتها إنما كانت تفعل بعد زوال وقت النهي.

                                واختلفوا: هل يستحب إقامة العيدين في وقت واحد بالسوية، أو يعجل أحدهما عن آخر؟ على قولين.

                                أحدهما: أنهما يصليان بالسوية، وهو قول مالك .

                                وقال ربيعة : إذا طلعت الشمس فالتعجيل بهما - يعني: الفطر والأضحى- أحسن من التأخير.

                                قال الزهري : كانوا يؤخرون العيدين حتى يرتفع النهار جدا.

                                وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يبكر بالخروج إلى الصلاة; كيلا يصلي أحد قبلها.

                                خرجه كله جعفر الفريابي في " كتاب العيدين".

                                والثاني: يستحب أن تؤخر صلاة الفطر، وتقدم الأضحى، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد .

                                وفي حديث مرسل، خرجه الشافعي ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كتب إلى عمرو بن حزم - وهو بنجران - أن عجل الأضحى، وأخر الفطر .

                                وفي إسناده: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وهو ضعيف جدا.

                                والمعنى في ذلك: أنه بتأخير صلاة عيد الفطر يتسع وقت إخراج الفطرة المستحب إخراجها فيه، وبتعجيل صلاة الأضحى يتسع وقت التضحية، ولا [ ص: 106 ] يشق على الناس أن يمسكوا عن الأكل حتى يأكلوا من ضحاياهم.

                                وقد تقدم في حديث ابن عباس المخرج في " المسند": وكانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى، فيقولون: نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا.

                                وأظنه من قول عطاء .

                                ويكون تعجيل صلاة الأضحى بمقدار وصول الناس من المزدلفة إلى منى ورميهم وذبحهم - نص عليه أحمد في رواية حنبل -; ليكون أهل الأمصار تبعا للحاج في ذلك; فإن رمي الحاج الجمرة بمنزلة صلاة العيد لأهل الأمصار.

                                وأما آخر وقت صلاة العيد فهو: زوال الشمس.

                                قال عطاء : كل عيد في صدر النهار.

                                وقال مجاهد : كانوا يعدون العيد في صدر النهار.

                                وقال مجاهد : كل عيد للمسلمين فهو قبل نصف النهار.

                                وقال أحمد : لا يكون الخروج للعيدين إلا قبل الزوال.

                                وأما إن لم يعلم بالعيد إلا في أثناء النهار، فإن علم به قبل زوال الشمس خرجوا من وقتهم، وصلوا صلاة العيد.

                                وإن شهدوا بعد الزوال في أثناء النهار، فقال أكثر العلماء: يخرجون من الغد للصلاة، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي والليث وإسحاق وأحمد وابن المنذر .

                                واستدلوا بما روى أبو عمير بن أنس ، قال: حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- قالوا: غم علينا هلال شوال، فأصبحنا صياما، فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد .

                                [ ص: 107 ] خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .

                                وصححه إسحاق بن راهويه والخطابي والبيهقي .

                                واحتج به أحمد .

                                وتوقف فيه الشافعي ، وقال: لو ثبت قلنا به.

                                وقالت طائفة: تسقط ولا تصلى بعد ذلك، كما لا تقضى الجمعة إذا فاتت، وهو قول مالك وأبي ثور والشافعي - في قول له.

                                والقول المشهور عنه: أنه إن أمكن جمع الناس في بقية يومهم لصغر البلد خرجوا، وصلوا في بقية اليوم، وإلا أخروه إلى الغد.

                                وبنى ذلك أصحابه على أن التأخير إلى الغد قضاء، أو أداء.

                                فإن قيل: إنه أداء، لم تصل بعد الزوال; لأن وقت أدائها قد فات.

                                وإن قيل: إنه قضاء - وهو أصح عندهم- قضيت في بقية النهار، إذا أمكن جمع الناس فيه.

                                وهو أفضل - عندهم- من تأخيرها إلى الغد، في أصح الوجهين عندهم.

                                ولا خلاف عندهم، أنه إذا لم يعلم بالعيد إلا في الليلة الثانية ، أنه يصلى من الغد.

                                قالوا: ويكون أداء، بغير خلاف.

                                واتفقوا على أن هذه الشهادة لا تقبل بالنسبة إلى صلاة العيد، بل تصلى من الغد أداء بغير خلاف.

                                قال في " شرح المهذب": قال أصحابنا: ليس يوم الفطر أول شوال مطلقا وإنما هو اليوم الذي يفطر فيه الناس; بدليل حديث: فطركم يوم تفطرون [ ص: 108 ] وكذلك يوم النحر، وكذلك يوم عرفة هو اليوم الذي يظهر للناس، أنه يوم عرفة، سواء كان التاسع أو العاشر.

                                وقال الشافعي في " الأم" عقب هذا الحديث: فبهذا نأخذ. قال: وإنما كلف العباد الظاهر، ولم يظهر الفطر إلا يوم أفطروا. انتهى.

                                وقال أصحاب أبي حنيفة - فيمن شهد بيوم عرفة بعرفة ، على وجه لا يتمكن الناس فيه من تلافي الوقوف، على تقدير صحة شهادتهم في ذلك العام -: إن شهادتهم غير مقبولة; لما يؤدي إليه قبولها من إيقاع الناس في الفتنة، بتفويت حجهم.

                                ذكره صاحب " الكافي" - منهم.



                                الخدمات العلمية