الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              142 [ 76 ] وعن أسامة بن زيد ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ، فصبحنا الحرقات من جهينة ، فأدركت رجلا ، فقال : لا إله إلا الله ، فطعنته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقال : لا إله إلا الله ، وقتلته ؟! ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنما قالها خوفا من السلاح ، قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟! فما زال يكررها علي ، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ .

                                                                                              وفي رواية : فقال : ولم قتلته ؟ فقال : يا رسول الله ، أوجع في المسلمين ، فقتل فلانا وفلانا - وسمى له نفرا - وإني حملت عليه ، فلما رأى السيف ، قال : لا إله إلا الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقتلته ؟! قال : نعم ، قال : فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! قال : يا رسول الله ، استغفر لي ، فقال : فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! ، قال : فجعل لا يزيد على أن يقول : كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! .
                                                                                              رواه البخاري ( 4269 ) ، ومسلم ( 96 ) ، وأبو داود ( 2643 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله : " فصبحنا الحرقات من جهينة ") رويناه بضم الراء وفتحها ، وهو موضع معروف من بلاد جهينة ، يسمى بجمع المؤنث السالم ; كعرفات ، وأذرعات .

                                                                                              و ( قوله - عليه الصلاة والسلام - لأسامة : " أقال لا إله إلا الله ، وقتلته ؟! ، وتكرار ذلك القول : إنكار شديد ، وزجر وكيد ، وإعراض عن قبول عذر أسامة الذي أبداه بقوله : إنما قالها خوفا من السلاح .

                                                                                              و (قوله : " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟! " ) أي : أقالها بقلبه ، وتكلم بها مع نفسه ، ففيه : دليل لأهل السنة على أن حديث النفس كلام وقول ; فهو رد على من أنكر ذلك من المعتزلة وأهل البدع . وفيه : دليل على ترتيب الأحكام على الأسباب الظاهرة الجلية ، دون الباطنة الخفية .

                                                                                              و (قوله : " فما زال يكررها علي ، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ ") أي : كلمة [ ص: 297 ] الإنكار ، وظاهر هذه الرواية : أن الذي كرر عليه إنما هو قوله : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ ! ، وفي الرواية الأخرى أن الذي كرر عليه إنما هو قوله : كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟! ووجه التلفيق بينهما : أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كرر الكلمتين معا ، غير أن بعض الرواة ذكر إحدى الكلمتين ، وذكر آخر الأخرى .

                                                                                              ومعنى قوله : كيف تصنع بلا إله إلا الله ؟ ! أي : بماذا تحتج إذا قيل لك : كيف قتلت من قال : لا إله إلا الله ، وقد حصلت لدمه حرمة الإسلام ؟! وإنما تمنى أسامة أن يتأخر إسلامه إلى يوم المعاتبة ; ليسلم من تلك الجناية السابقة ، وكأنه استصغر ما كان منه من الإسلام والعمل الصالح قبل ذلك ، في جنب ما ارتكبه من تلك الجناية ; لما حصل في نفسه من شدة إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، وعظمه . فإن قيل : إذا استحال أن يكون قتل أسامة لذلك الرجل عمدا لما ذكرتم ، وثبت أنه خطأ ، فلم [ ص: 298 ] لم يلزمه الكفارة ، والعاقلة الدية ؟ فالجواب : أن ذلك مسكوت عنه ، وغير منقول شيء منه في الحديث ولا في شيء من طرقه ; فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بلزوم ذلك أسامة وعاقلته ولم ينقل ، وفيه بعد ; إذ لو وقع شيء من ذلك ، لنقل في طريق من الطرق ، مع أن العادة تقتضي التحدث بذلك والإشاعة . ويحتمل أن يقال : إن ذلك كان قبل نزول حكم الكفارة والدية ، والله أعلم .

                                                                                              وقد أجاب أصحابنا عن عدم إلزام الدية بأجوبة ، نذكرها على ضعفها :

                                                                                              أحدها : إنها لم تلزمه ولا عاقلته ; لأنه كان مأذونا له في أصل القتال ; فلا يكون عنه من إتلاف نفس أو مال ; كالخاتن والطبيب .

                                                                                              وثانيها : إنما لم يلزمه ذلك ; لأن المقتول كان من العدو وفيهم ، ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته ، فلا تجب فيه دية ; كما قال الله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة [ النساء : 92 ] ولم يحكم فيه بسوى الكفارة ; وهذا يتمشى على مذهب ابن عباس وجماعة من أهل العلم في الآية .

                                                                                              وقد ذهب بعضهم : إلى أن الآية فيمن كان أولياؤه معاندين ، وقد ذكر عن مالك ، والمشهور عنه : أنها فيمن لم يهاجر من المسلمين ; لقوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا [ الأنفال : 72 ] .

                                                                                              وثالثها : أن أسامة اعترف بالقتل ، ولم تقم بذلك بينة ، ولا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ، ولا صلحا ولا اعترافا ، ولم يكن لأسامة مال فيكون فيه الدية .

                                                                                              قال المؤلف رحمه الله : وهذه الأوجه لا تسلم عن الاعتراض ، وتتبع ذلك يخرج عن المقصود . ولم أجد لأحد من العلماء اعتذارا عن سقوط إلزام الكفارة ; فالأولى التمسك بالاحتمالين المتقدمين ، والله أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية