الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        وما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوازن ...قال: « أما بعد، فإن إخوانكم جاؤوا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فقال الناس: طيبنا لك ».

        وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهب نصيبه من الغنيمة، ونصيبه منها مشاع، والوقف كالهبة بجامع أن كلا منهما تبرع.

        ونوقش من وجوه:

        الوجه الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك على وجه المبالغة في النهي عن الغلول، أي: لا أملك إلا نصيبي فكيف أطيب لك بشيء من الغنيمة، [ ص: 625 ] ألا ترى أنه ليس لواحد من الغانمين أن يهب نصيبه قبل القسمة؛ لأنه لا يدري أين يقع نصيبه، أو كان ذلك مما لا يحتمل القسمة.

        ويجاب عنه: بأن هذه مجرد احتمالات لا تنهض في مقابل تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بهبته لنصيبه، وأخبر بأنه لا يستطيع هبة نصيبه؛ لأنه غير متميز؛ فلما لم ينقل عنه شيء من ذلك دل على صحة هبة المشاع، وكذا الوقف.

        أما القول بأنه مما لا يحتمل القسمة، فهذا قول ينقصه الدليل الدال على صحة هبة المشاع سواء كان مما يحتمل القسمة أو مما لا يحتملها.

        الوجه الثاني: أن هذا ليس فيه هبة شرعية، وإنما هو رد سبيهم إليهم على وجه المن عليهم، ورد الشيء لصاحبه لا يسمى هبة.

        ويجاب عنه: بأن هذا غير مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ملك الغنيمة وأصحابه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « نصيبي لكم » ولو كان لم يملكها لما قال ذلك، ولما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في ردها لهم.

        الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنيمة قبل مجيء وفد هوازن، وإذا كان كذلك فما رده صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو مفرز مقسوم غير مشاع؛ إذ كل واحد من الغانمين رد غنمه إلى صاحبه.

        (181) 6 - ما رواه أحمد من طريق يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، قال: أخبرنا عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمير بن سلمة الضميري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالعرج، فإذا هو بحمار عقير فلم يلبث أن جاء [ ص: 626 ] رجل من بهز، فقال: يا رسول الله هذه رميتي فشأنكم بها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق ».

        [إسناده حسن] [ ص: 627 ]

        وجه الاستدلال: أن البهزي وهب الحمار للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهذه هبة المشاع، والوقف كالهبة بجامع أن كلا منهما تبرع.

        ونوقش بأن هذا لم يكن على وجه الهبة، بل على وجه الإباحة، ولا يؤثر فيها الشيوع، والممتنع هو القسمة على وجه التمليك.

        ويجاب عنه: بأن ظاهر قولي البهزي: « شأنكم بها » يدل على أنه وهبه الهم، أي: افعلوا بهذا الحمار ما تشاؤون فهو ملك لكم.

        (182) 7 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق زهدم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله، فقال: « والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه »، قال: فلبثنا ما شاء الله، ثم أتي بإبل، فأمر لنا بثلاث ذود غر الذرى ». [ ص: 628 ]

        ووجه الاستدلال به : أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب الأشعريين ثلاثة من الإبل مشاعا بينهم، والوقف كالهبة بجامع أن كلاهما تبرع.

        (183) 8 - ما رواه البخاري من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتي بشراب فشرب وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: « إن أذنت لي أعطيت هؤلاء » فقال: ما كنت لأوثر بنصيبي منك يا رسول الله أحدا، فتله في يده.

        وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الغلام أن يهب نصيبه للأشياخ، وكان نصيبه منه مشاعا غير متميز، فدل ذلك على صحة هبة المشاع وكذا الوقف بجامع التبرع.

        ونوقش بأن الحديث ليس فيه ما يدل على هبة المشاع، وإنما هو من طريق الإرفاق.

        ويجاب عنه : بأن ظاهر قول الغلام « ما كنت لأوثر نصيبي » وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم على قوله يدل على أن هذا السؤال سؤال هبة لنصيبه لا سؤال إرفاق.

        (184) 9 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق محارب، عن جابر رضي الله عنه قال: « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقضاني وزادني ». [ ص: 629 ]

        وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لجابر ثمن بعيره وزاده على ذلك، وهذه الزيادة هبة لمشاع؛ لأن الزيادة غير متميزة عن الثمن، وكذا الوقف بجامع التبرع.

        ونوقش بأن هذه الزيادة لم تكن هبة، وإنما هي ليتيقن بها الإيفاء، والزيادة لا يؤثر فيها الشيوع.

        ويجاب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكنه التيقن من إيفائه حقه من غير زيادة، فلما زاده دل ذلك على أنه أراد إكرامه بهذه الهبة.

        (185) 10 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين فهم به أصحابه، فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا »، وقال: « اشتروا له سنا فأعطوه إياه »، فقالوا: إنا لا نجد سنا إلا سنا هي أفضل من سنه، قال: « فاشتروه فأعطوه إياه، فإن من خيركم أحسنكم قضاء ».

        وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعطاء سن لصاحب الدين أفضل من سنه، والزيادة فيه غير مقسومة، وهذه هبة لمشاع ، وكذا الوقف بجامع التبرع.

        ونوقش بما نوقش به الحديث السابق.

        ويجاب عنه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكنه أن يعطيه قيمة سنه لتعذر مثله، أو ينتظر الأعرابي حتى يوجد مثل سنه فيعطى إياه؛ لأن المثل إذا تعذر عدل إلى قيمته، فلما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على حقه مع إمكان إعطائه قيمته أو [ ص: 630 ] الانتظار إلى وجود مثله دل على أنه أراد الإحسان إليه بهبته لهذا الزائد على مثل حقه.

        (186) 11 - وقال البخاري: وقالت أسماء للقاسم بن محمد وابن أبي عتيق: « ورثت عن أختي عائشة بالغابة، وقد أعطاني به معاوية مئة ألف فهو لكما ».

        وجه الاستدلال: أن أسماء وهبت لهما ما ورثته من عائشة هبة مشاعة بينهما.

        ونوقش بأن هذه الهبة لا يتحقق فيها الشيوع عند صاحبي أبي حنيفة - خلافا له - ؛ لأن هذه هبة الجملة ولم يوجد فيها الشيوع إلا من أحد الطرفين فلا يفسد؛ إذ ليس فيه إلزام المتبرع مؤنة القسمة.

        وأجيب عنه: بأن هذه هبة النصف من كل واحد.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية