الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونظير هذا القصص المعروفة التي ذكرها الخلال في كتاب «السنة» هو وغيره في مسألة اللفظ ومسألة الجبر ونحوهما من المسائل، فإنه لما ظهرت القدرية النفاة للقدر وأنكروا أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن يكون خالقا لكل شيء وأن تكون أفعال العباد من مخلوقاته، أنكر الناس هذه البدعة، فصار بعضهم يقول في مناظرته: هذا يلزم منه أن يكون الله مجبرا للعباد على أفعالهم، وأن يكون قد كلفهم ما لا يطيقونه، فالتزم بعض من ناظرهم من المثبتة إطلاق ذلك، وقال: نعم، يلزم الجبر، والجبر حق، فأنكر الأئمة ـ كـ الأوزاعي وأحمد بن حنبل ونحوهما ـ ذلك على الطائفتين، ويروى إنكار [ ص: 255 ] إطلاق الجبر عن الزبيدي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم.

وقال الأوزاعي وأحمد ونحوهما: من قال: إنه جبر فقد أخطأ، ومن قال لم يجبر فقد أخطأ، بل يقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونحو ذلك.

وقالوا: ليس للجبر أصل في الكتاب والسنة، وإنما الذي في السنة لفظ الجبل لا لفظ الجبر؛ فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأشج عبد القيس: «إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة.

فقال: أخلقين تخلقت بهما، أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقين جبلت عليهما.

فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله»
.

وقالوا: إن لفظ الجبر لفظ مجمل؛ فإن الجبر إذا أطلق في الكلام فهم منه إجبار الشخص على خلاف مراده، كما تقول الفقهاء: إن الأب يجبر ابنته على النكاح أو لا يجبرها، وإن الثيب البالغ العاقل لا يجبرها أحد على النكاح بالاتفاق، وفي البكر البالغ نزاع مشهور، ويقولون: إن ولي الأمر يجبر المدين على وفاء دينه، ونحو ذلك، فهذه العبارات معناها إجبار الشخص على خلاف مراده، وهو كلفظ الإكراه: إما أن يحمله على الفعل الذي يكرهه ويبغضه فيفعل خوفا من وعيده، وإما أن يفعل به الشيء بغير فعل منه.

ومعلوم أن الله سبحانه تعالى إذا جعل في قلب العبد إرادة للفعل ومحبة له حتى يفعله ـ كما قال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان [الحجرات: 7]ـ لم يكن هذا جبرا [ ص: 256 ] بهذا التفسير، ولا يقدر على ذلك إلا الله تعالى، فإنه هو الذي جعل الراضي راضيا، والمحب محبا، والكاره كارها.

وقد يراد بالجبر نفس جعل العبد فاعلا، ونفس خلقه متصفا بهذه الصفات، كما في قوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [المعارج: 19-20] .

فالجبر بهذا التفسير حق، ومنه قول محمد بن كعب القرظي في تفسير اسمه الجبار قال: هو الذي جبر العباد على ما أراد.

ومنه قول علي رضي الله عنه في الأثر المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم داحي المدحوات، فاطر المسموكات، جبار القلوب على فطراتها: شقيها وسعيدها»، فالأئمة منعت من إطلاق القول بإثبات لفظ الجبر أو نفيه لأنه بدعة يتناول حقا باطلا.

التالي السابق


الخدمات العلمية