الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك قول من قال: إن الاحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل، أو احتجاج الخاصة به سائغ، فإنه قول باطل، فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر، ووقع العتب والملام بسبب الذنب، كما حقق الله ذلك في القرآن، ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة، كما في الحديث: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه، لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه، فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه، واجتباه ربه وهداه، فأخبر آدم بأن القدر قد سبق بذلك، فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، ما أخطاه لم يكن ليصيبه.

كما قال تعالى: [ ص: 420 ] ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها [سورة الحديد:22]، وقال: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه [سورة التغابن:11].

قال طائفة من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظرا إلى القدر، وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار.

فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها. فلا بد أن يصيبهم ذلك، فلا فائدة من ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها، وإنما الفائدة في الرجوع إلى الله.

ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح: « خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته لما فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته، وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان» .

ومن هذا قوله في الحديث الصحيح: « احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت [ ص: 421 ] لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن اللو تفتح عمل الشيطان» .

والمقصود هنا أنهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشعبهم في حديث الحجة. وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح، لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله، ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل.

وكثيرا ما يقع لمن هو من أهل الحق - في أصل مقصوده، وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى، مثل أن يتكلموا في مسألة، فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها ردا غير مستقيم.

وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والإيمان، والمعرفة والنكرة: إن أرادوا به أن الله سبق علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون، ويعرفون وينكرون، وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه، فهذا حق يرده القدرية، فغلاتهم ينكرون العلم، وجمهورهم ينكرون عموم خلقه ومشيئته وقدرته، وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق، كما في ظاهر المنقول عن إسحاق، فهذا يتضمن شيئين: أحدهما: أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودا فيهم، كما قال ذلك [ ص: 422 ] طوائف من السلف، وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه. والآية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه، وكذلك في وجود الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان.

لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا، فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار، فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة، وأن الله خلق خلقه حنفاء، بل هو مؤيد لذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية