الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1647 (4) باب

                                                                                              وجوب الزكاة في البقر والغنم ، وإثم مانع الزكاة

                                                                                              [ 856 ] عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه ، وجبينه وظهره ، كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله ، إما إلى الجنة وإما إلى النار . قيل : يا رسول الله فالإبل ؟ قال : ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ، ومن حقها حلبها يوم وردها ، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر ، أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ، قيل : يا رسول الله ! فالبقر والغنم ؟ قال : ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر ، لا يفقد منها شيئا ، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) .

                                                                                              قيل : يا رسول الله ! الخيل ؟ قال : (الخيل ثلاثة ، هي لرجل وزر ، وهي لرجل ستر ، وهي لرجل أجر ، فأما التي هي له وزر . فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء على أهل الإسلام ، فهي له وزر ، وأما التي هي له ستر ، فرجل ربطها في سبيل الله ، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها ، فهي له ستر ، وأما التي هي له أجر ; فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة ، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات ، وكتب له أرواثها وأبوالها حسنات ، ولا تقطع طولها ، فاستنت شرفا أو شرفين إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات ، ولا مر بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات . قيل : يا رسول الله! فالحمر ؟ قال : ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره


                                                                                              رواه أحمد (2 \ 262 و 276)، ومسلم (987) (26)، وأبو داود (1558 و 1659)، والنسائي (5 \ 12 و 13) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (4) ومن باب: وجوب الزكاة في البقر والغنم

                                                                                              قوله : (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها) ; كذا صحت الرواية بهاء التأنيث المفردة ، وظاهره: أنه عائد على الفضة ، فإنه أقرب مذكور ، وهي مؤنثة ، وحينئذ يبقى ذكر الذهب ضائعا لا فائدة له . وهذا مثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم

                                                                                              وقد حمل هذا على الاكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر ، كما قال الشاعر :


                                                                                              نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

                                                                                              وقال الآخر :


                                                                                              لكل هم من الهموم سعه والصبح والمسي لا بقاء معه

                                                                                              [ ص: 25 ] وقيل : أعادها على معنى الكلمات المتقدمة ، وكأنه قال : لا يؤدي من تلك الأمور المذكورات حقها . وأشبه من هذه الأوجه أن يقال : إن الذهب والفضة يقال عليهما : عين لغة ، فأعاد عليها الضمير وهي مؤنثة ، والله أعلم .

                                                                                              وهذا الحديث يدل على أن الذهب والبقر فيهما الزكاة . وإن لم يجئ ذكرهما في حديث جابر المتقدم ، ولا في كتاب أبي بكر في الصدقة . على ما ذكره البخاري . ولا خلاف في وجوب الزكاة فيهما ، وإن اختلفوا في نصاب البقر على ما يأتي .

                                                                                              وقوله : (فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره) ; قيل : إنما خصت هذه المواضع بالكي دون غيرها من أعضائه لتقطيبه وجهه في وجه السائل ، وازوراره عنه بجانبه ، وانصرافه عنه بظهره .

                                                                                              وقوله : (كلما بردت أعيدت) ; كذا رواية السجزي ، ولكافة الرواة : كلها " ردت " ، والأول هو الصواب ، فتأمله فإنه هو المناسب للمعنى .

                                                                                              وقوله : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قيل : معناه : لو حاسب فيه غير الله سبحانه وتعالى . الحسن : قدر مواقــفهم للحساب . ابن اليمان : كل موقف منها ألف سنة .

                                                                                              وفي الحديث قال - صلى الله عليه وسلم - : (والذي نفسي بيده ! ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة) .

                                                                                              [ ص: 26 ] وقوله : ( بطح لها ) ; أي : ألقي على وجهه . قاله بعض المفسرين . وقال أهل اللغة : البطح : هو البسط كيف ما كان على الوجه أو غيره ، ومنه : سميت بطحاء مكة ; لانبساطها .

                                                                                              وقوله : ( بقاع قرقر ) ; أي : بموضع مستو واسع . وأصله : الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء ، ويقال فيه : قاع ، ويجمع : قيعة ، وقيعان ، مثل : جار وجيرة وجيران . وقال الثعالبي : إذا كانت الأرض مستوية مع الاتساع فهي الخبت والجدجد والصحيح ، ثم القاع والقرقر ، والصفصف .

                                                                                              وقوله : (ليس فيهما عقصاء) ; وهي الملتوية القرن . ورجل أعقص : فيه التواء وصعوبة أخلاق .

                                                                                              ( ولا جلحاء ) ; وهي التي لا قرون لها . ( ولا عضباء ) ; وهي المكسورة داخل القرن ، وهو المشاش ، وقد يكون العضب في الأذن ، والمعضوب : الزمن الذي لا حراك به . هذا معنى ما ذكره أبو عبيد . وقال ابن دريد : الأعضب : الذي انكسر أحد قرنيه . وقال غير هؤلاء : الأعضب في القرن والأذن : الذي انتهى القطع إلى نصفه فما فوقه .

                                                                                              وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى : العضباء . ومن رواية مصعب عن مالك : وكانت تسمى : القصواء . وفي [ ص: 27 ] حديث أنس : " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته الجدعاء " ، وفي آخر : " على ناقة خرماء " . وفي آخر : " مخضرمة " .

                                                                                              قال أبو إسحاق الحربي : والعضب والجذع والخرم والقصو كله في الأذن . وقال أبو عبيدة : القصواء المقطوعة الأذن عرضا ، والمخضرمة : المستأصلة ، والعضب : النصف فما فوقه . وقال الخليل : الخضرمة : قطع الأذن الواحدة .

                                                                                              وقوله : ( كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها ) ; هكذا صحت الرواية . فقيل : هو تغيير وقلب في الكلام ، وصوابه كما جاء في رواية أبي صالح ، عن أبي هريرة : (كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها) .

                                                                                              قيل : وهكذا يستقيم الكلام ; لأنه إنما يريد الأول الذي قد مر قبل ، وأما الآخر فلم يمر بعد ، فلا يقال فيه : ردت .

                                                                                              قلت : ويظهر لي أن الرواية الصحيحة ليس فيها تغيير ; لأن معناها : أن أول الماشية كلما وصلت إلى آخر ما تمشي عليه تلاحقت بها أخراها ، ثم إذا أرادت الأولى الرجوع بدأت الأخرى بالرجوع ، فعادت الأخرى أولى ، حتى تنتهي إلى آخره . وهكذا إلى أن يقضي الله بين العباد ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقوله : ( تطؤه بأظلافها ) : جمع ظلف ، وهو : الظفر من كل دابة مشقوقة الرجل ، ومن الإبل : الخف . ومن الخيل والبغال والحمير : الحافر .

                                                                                              [ ص: 28 ] وقوله : (ونواء لأهل الإسلام) ، وهو بكسر النون والمد ; أي : معاداة . يقال : ناوأته نواء ومناوأة : إذا عاديته . والوزر " : الإثم .

                                                                                              وقد تعلق أبو حنيفة ومن يقول بوجوب الزكاة في الخيل بقوله : (ولم ينس حق الله في رقابها) ; قال : وحق الله هو الزكاة .

                                                                                              ولا حجة فيه ; لأن ذكر الحق هنا مجمل غير مفسر ، ثم يقال بموجبه ; إذ قد يتعين فيها حقوق واجبة لله تعالى في بعض الأوقات : كإخراجها في الجهاد ، وحمل عليها في سبيل الله ، والإحسان إليها الواجب ، والصدقة بما يكتسب عليها إن دعت إلى ذلك ضرورة .

                                                                                              وقوله : ( فهي له ستر ) ; أي : حجاب من سؤال الغير عند حاجته لركوب فرس ; بدليل قوله : (تقنيا وتعففا) ; أي : عن الناس .

                                                                                              وقوله : (وأما التي هي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله) ; أي : أعدها ، وهو من الربط ، ومنه : الرباط . وهو حبس الرجل نفسه وعدته في الثغور تجاه العدو . و (استنت) ; أي : رعت ، ومنه قولهم : استنت الفصال حتى القرعى .

                                                                                              وقال ثابت : الاستنان : أن تلج في عدوها ذاهبة وراجعة .

                                                                                              والشرف: المرتفع من الأرض . وقال بعضهم : الشرف : الطلق ، فكأنه يقول : جرت طلقا ، أو طلقين .

                                                                                              [ ص: 29 ] وقوله : ( ولا يريد أن يسقيها ) ; أي : يمنعها من شرب يضر بها أو به ; باحتباسها للشرب ، فيفوته ما يؤمله ، أو يقع به ما يخافه .

                                                                                              وقوله : ( ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة ) ; أي : القليلة المثل ، المتفردة بمعناها . " الجامعة " ; أي : العامة الشاملة . وهو حجة للقائلين بالعموم فإن لفظة شيء من صيغ العموم ، وهو مذهب الجمهور من الفقهاء والأصوليين .

                                                                                              وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى أنه لم يفسر الله من أحكام الحمر وأحوالها ، ما فسر له في الخيل والإبل وغيرها مما ذكره .




                                                                                              الخدمات العلمية