الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ومنه قوله : { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } أي بيان ما فيها أو يبين ما فيها أو الأمر البين فيها وقد سمى الرسول بينة كما قال : { حتى تأتيهم البينة } { رسول من الله } فإنه يبين الحق والمؤمن على سبيل بينة ونور من ربه والشاهد المقصود به شهادته للمشهود له فهو يشهد للمؤمن بما هو عليه وجعل الإيمان من الله كما جعل الشاهد من الله لأن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال كما في الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة } " .

                وأيضا : فالإيمان ما قد أمر الله به .

                وأيضا فالإيمان إنما هو ما أخبر به الرسول وهذا أخبر به الرسول لكن الرسول له وحيان وحي تكلم الله به يتلى ووحي لا يتلى فقال : [ ص: 73 ] { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } الآية . وهو يتناول القرآن والإيمان . وقيل الضمير في قوله : { جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } يعود إلى الإيمان ذكر ذلك عن ابن عباس . وقيل : إلى القرآن . وهو قول السدي وهو يتناولهما وهو في اللفظ يعود إلى الروح الذي أوحاه وهو الوحي الذي جاء بالإيمان والقرآن .

                فقد تبين أن كلاهما من الله نور وهدى ومنه هذا يعقل بالقلب ; لما قد يشاهد من دلائل الإيمان مثل دلائل الربوبية والنبوة وهذا يسمع بالآذان والإيمان الذي جعل للمؤمن هو مثل ما وعد الله به في قوله : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } أي أن القرآن حق فهذه الآيات متأخرة عن نزول القرآن وهو مثل ما فعل من نصر رسوله والمؤمنين يوم بدر وغير يوم بدر فإنه آيات مشاهدة صدقت ما أخبر به القرآن ولكن المؤمنون كانوا قد آمنوا قبل هذا .

                وقيل : نزول أكثر القرآن الذي ثبت الله به لنبيه وللمؤمنين ; ولهذا قال : { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } فهو يشهد لرسوله بأنه صادق بالآيات الدالة على نبوته وتلك آمن بها المؤمنون ثم أنزل من القرآن شاهدا له ثم أظهر آيات معاينة تبين لهم أن القرآن حق .

                [ ص: 74 ] فالقرآن وافق الإيمان والآيات المستقبلة وافقت القرآن والإيمان ; ولهذا قال : { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة } فقوله : { ومن قبله } يعود الضمير إلى الشاهد الذي هو القرآن كما قال تعالى : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } الآية ثم قال : { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة } الآية . فقوله { ومن قبله } الضمير يعود إلى القرآن أي : من قبل القرآن كما قاله ابن زيد . وقيل : يعود إلى الرسول كما قاله مجاهد وهما متلازمان .

                وقوله : { ومن قبله كتاب موسى } فيه وجهان قيل : هو عطف مفرد وقيل : عطف جملة . قيل المعنى { ويتلوه شاهد منه } ويتلوه أيضا من قبله كتاب موسى فإنه شاهد بمثل ما شهد به القرآن وهو شاهد من الله وقيل : { ومن قبله كتاب موسى } جملة ; ولكن مضمون الجملة فيها تصديق القرآن كما قال في الأحقاف .

                وقوله تعالى { أولئك يؤمنون به } يدل على أن قوله : { أفمن كان على بينة من ربه } تتناول المؤمنين فإنهم آمنوا بالكتاب الأول والآخر كما تتناول النبي صلى الله عليه وسلم وأولئك يعود إليهم الضمير فإنهم مؤمنون به بالشاهد من الله فالإيمان به إيمان بالرسول والكتاب الذي قبله .

                [ ص: 75 ] ثم قال : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم وغيرهما عن أيوب عن سعيد بن جبير قال : ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه إلا وجدت تصديقه في كتاب الله ; حتى بلغني أنه قال : " { لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار } " قال سعيد : فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } قال الأحزاب هي الملل كلها .

                وقوله تعالى { أولئك يؤمنون به } أي كل من كان على بينة من ربه فإنه يؤمن بالشاهد من الله والإيمان به إيمان بما جاء به موسى قال : { أولئك يؤمنون به } وهم المتبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم من أصحابه وغيرهم إلى قيام الساعة ثم قال : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } والأحزاب هم أصناف الأمم الذين تحزبوا وصاروا أحزابا كما قال تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } .

                وقد ذكر الله طوائف الأحزاب في مثل هذه السورة وغيرها وقد قال تعالى عن مكذبي محمد صلى الله عليه وسلم { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } وهم الذين قال فيهم : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقال عن أحزاب النصارى : { فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } الآيات .

                وأما من قال : الضمير في قوله : { أولئك يؤمنون به } يعود على أهل الحق قال : إنه موسى وعيسى ومحمد . فإنه إن أراد بهم من كان مؤمنا بالكتابين قبل نزول القرآن فلم يتقدم لهم ذكر والضمير في قوله ( به مفرد ولو آمن مؤمن بكتاب موسى دون الإنجيل بعد نزوله وقيام الحجة عليه به لم يكن مؤمنا .

                وهذان القولان حكاهما أبو الفرج ولم يسم قائلهما والبغوي وغيره لم يذكروا نزاعا في أنهم من آمن بمحمد ولكن ذكروا قولا إنهم من آمن به من أهل الكتاب وهذا قريب . ولعل الذي حكى قولهم أبو الفرج أرادوا هذا وإلا فلا وجه لقولهم .

                ومن العجب أن أبا الفرج ذكر بعد هذا في الأحزاب أربعة أقوال : " أحدها " أنهم جميع الملل قاله سعيد بن جبير .

                [ ص: 77 ] و " الثاني " اليهود والنصارى قاله قتادة .

                و " الثالث " قريش قاله السدي .

                و " الرابع " بنو أمية وبنو المغيرة . قال [ أي ] أبي طلحة بن عبد العزى قاله مقاتل .

                وهذه الآية تقتضي أن الضمير يعود إلى القرآن في قوله : { ومن يكفر به } وكذلك : { أولئك يؤمنون به } إنه القرآن ودليله قوله تعالى { فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك } وهذا هو القرآن بلا ريب وقد قيل : هو الخبر المذكور وهو أنه من يكفر به من الأحزاب وهذا أيضا هو القرآن فعلم أن المراد هو الإيمان بالقرآن والكفر به باتفاقهم وأنه من قال في أولئك إنهم غير من آمن بمحمد لم يتصور ما قال .

                وقد تقدم في قوله : { ومن قبله كتاب موسى } وجهان . هل هو عطف جملة أو مفرد ; لكن الأكثرون على أنه مفرد . وقال الزجاج المعنى : وكان من قبل هذا كتاب موسى . دليل على أمر محمد فيتلون كتاب موسى عطفا على قوله : { ويتلوه شاهد منه } أي ويتلو كتاب موسى ; لأن موسى وعيسى بشرا بمحمد في التوراة والإنجيل ونصب إماما على الحال .

                [ ص: 78 ] قلت : قد تقدم أن الشاهد يتلو على من كان على بينة من ربه أي يتبعه شاهدا له بما هو عليه من البينة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية