الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فأما الإيمان بالله تعالى ، فقد شهد القرآن بأن الفريقين فقدوه بهدم ركنه الأعظم وهو التوحيد ، فإنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله يشرعون لهم العبادات والحلال والحرام فيتبعونهم ، وذلك حق الرب وحده ، فقد أشركوهم به في الربوبية ، ومنهم من أشرك في الألوهية ، كالذين قالوا : عزير ابن الله ، والذين قالوا : المسيح ابن الله أو هو الله ، وسيأتي هذا وذاك في هذا السياق من السورة .

                          وقد توسع الرازي في المسألة بأساليبه الكلامية فقال : " التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة ، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه ، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا فيه فهو منكر له ، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله ، فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله .

                          " فإن قيل : فاليهود قسمان منهم مشبهة ومنهم موحدة ، كما أن المسلمين كذلك ، فهب أن [ ص: 250 ] المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود ؟ قلنا : أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال : لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم ، وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق " انتهى بنصه .

                          وهذا الكلام الذي سماه تحقيقا ليس فيه شيء من التحقيق ، ولا من العلم الصحيح ، وإنما هو نظريات كلامية مبنية على اصطلاحات جماعة الأشاعرة حتى في الألفاظ المفردة ، فالجسم في اللغة هو الشيء الجسيم الضخم ، وقال ابن دريد : هو كل شخص مدرك وقال أبو زيد : الجسم الجسد ، وفي التهذيب ما يوافقه ، قال : الجسم مجتمع البدن وأعضاؤه من الناس والإبل والدواب ونحو ذلك ، مما عظم من الخلق الجسيم انتهى من المصباح . واليهود لا يقولون بأن الإله جسم بشيء من هذه المعاني ، وتعريفه للجسم بما ذكره غير صحيح لغة ولا اصطلاحا ، والإله في اللغة المعبود ، واليهود لا تنكر وجود المعبود ، والله هو الرب الخالق لكل شيء ، واليهود يثبتون هذا ، وأنه واحد لا شريك له ، ولكن لهم أفهاما ، في نصوص التوراة يختلفون فيها كالمسلمين ، ومنها ما ظاهره التشبيه ، والذين يسميهم المجسمة من المسلمين ليسوا مجسمة بالمعنى الذي ذكره ، وإنما يسميهم هو وأمثاله مجسمة; لمخالفتهم لأمثاله المتكلمين في إثبات ما وصف الله به نفسه بلا تأويل ، ولا تشبيه ولا تعطيل ، وهو من متكلمي التأويل الذي يكفرون من يخالفهم في بعض تأويلاتهم لها بدعوى أن عدم تأويلها يسلتزم كونه تعالى جسما ، وهي دعوى باطلة ولازم المذهب ليس بمذهب عند الجمهور ، ولو لم يصرح صاحبه بنفي اللزوم ، فكيف إذا صرح به كالسلف ومن تبعهم من الحنابلة الذين ينبزهم أمثاله بلفظ المجسمة بغير علم ولا هدى ، وتأويلات أمثاله للكثير من تلك الآيات قد تسلتزم التعطيل أو تخطئة التنزيل أو قصوره عن بيان عقائد الدين وأصوله بدون كلامهم المبتدع ، حتى إن بعضهم حرم قراءتها على العوام كما أنزلها الله تعالى غير مقرونة بتأويل يخرجها عن مدلول لغة القرآن ، فإن كان لازم المذهب مطلقا فهم الكافرون .

                          وهو قد انتقل من بحثه في اليهود ، واختلافهم في فهم صفات الإله إلى اختلاف المسلمين ، مبتدئا بالاعتراف بأن حاصل كلامه " أن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكرا لوجود الله تعالى . ( قال ) وحينئذ يلزم أن تقولوا : إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله ; لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى " وضرب الأمثال أولا في اختلاف أصحابه الأشعرية ثم في اختلاف غيرهم ، وتحكم في التكفير لبعض المختلفين دون بعض بالنظريات الكلامية الباطلة . وإنما أوردنا كلامه لتنفير المسلمين عن إضاعة الوقت في مثله ، وفيما رتبه عليه من الحكم الشرعي المتعارض ، وهو زعمه أن غير المجسمة من اليهود لا يدخلون تحت حكم هذه الآية في القتال ، ولكن يدخلون تحتها في إيجاب الجزية عليهم ، واستدلاله على هذا [ ص: 251 ] بأنه لما وجبت الجزية على بعضهم " وجب القول به في حق الكل ، إذ لا قائل بالفرق " ! .

                          ويرد عليه ( أولا ) أنه لا قائل أيضا بالفرق بين حكم القتال وحكم الجزية الذي هو غاية له ، فليت شعري ماذا يفعل بهم إذا امتنعوا عن أداء الجزية ؟ و ( ثانيا ) أنه لم يقل أحد بما قاله من تقسيم اليهود إلى مجسمة وغير مجسمة ، وأن غير المجسمة لا يدخلون في حكم الآية . و ( ثالثا ) أنه إذا قام الدليل من القرآن على ثبوت حكم ، فلا يجوز أن يتوقف قبوله على قول بعض الفقهاء أو المتكلمين به ، وجعل عدم نقل ذلك عن أحد منهم سببا لتركه ! ! و ( رابعا ) أن الشرك بالله تعالى في العبادة كالدعاء مع الإيمان بأنه موجود ليس بجسم ، ولا حالا في جسم ينافي إيمان الأنبياء الذي دعوا إليه ، ولكن النظريات الكلامية صرفته عن ذلك .

                          وما يقال في الموحدين من اليهود يقال في الموحدين من النصارى كأتباع آريوس من المتقدمين والعقليين المعاصرين من أهل أوربة وغيرهم ، ويبقى النظر في سائر ما اشترط في قتالهم .

                          وأما مخالفة جماهير النصارى للمسلمين ولجميع كتب الله ورسله في الإيمان بالله تعالى ، وما يجب من توحيده فهو ظاهر لا يحتاج إلى نظريات كلامية ، فأصحاب المذاهب الرسمية منهم كلهم يقولون بألوهية المسيح وربوبيته ويعبدونه جهرا بغير تأويل ، ويقولون بالتثليث ، ومنهم من يعبد أمه مريم وغيرها من الرسل والصالحين وتماثيلهم ، ولا يعدون الموحدين منهم ، وهؤلاء الموحدون لم يبلغوا أن يكونوا أمة ، وأولي دولة ، بل هم متفرقون في جميع أممهم ، مع أن المسيح عليه السلام جاء مصدقا للتوراة في جميع العقائد ، وإنما نسخ بعض الأحكام العملية ، كما نقل عنه رواة الأناجيل في قوله : " ما جئت لأنقض الناموس ، وإنما جئت لأتمم " وأول ركن من أركان التوراة في الإيمان التوحيد المطلق ، والوصية الأولى من وصاياها العشر التي هي أساس الدين التوحيد ، والنهي الصريح عن اتخاذ الصور والتماثيل ، ونقلوا عنه أيضا أنه قال : " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته " وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير المائدة ، وكذا تفسير سورتي آل عمران والنساء بالشواهد من كتبهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية